[40 حكاية: 3] نخلاوي.. يلعب “أتاري”

مصطفى الشعلة

ما زلنا نعيش حقبة التسعينات. شعرتُ بفرحة غامرة عندما سمح لي ابن خالتي نبيل النغموش (دكتور جراحة مخ وأعصاب حاليًّا) ببضع دقائق لألعب لعبة السيارات في أتاريه التي تُعتبر في ذلك الوقت وسيلة ترفيه فريدة ومميزة وفخمة جدًا!

ألعابُنا كانت تختلفُ تمامًا عن أتاري نبيل! معظّم أطفال القرية فور انتهاء اليوم الدراسي وقبل ذهابهم لبيوتهم يقضون حينًا من الوقت بين أزقّة البيوت يشترون الدال واللوبة (نوع من البقوليّات اللذيذة) والصبعبلي (مثلّجات من اللبن والفيمتو والتانج) ويلعبون التيلة والدوّامة والطنقور. التيلة عبارة عن كرات زجاجية وكأنها البلور. كل لاعب يضع (حِل) وهو عبارة عن كرتين يضعها ملتصقتين ببعضهما البعض، وبشكل متتالي كل لاعب يقذف تيلته بإصبعه فإن أصابت إحدى (الحلول) أصبحت إليه. أبطال اللعبة هم من يكسبون أكبر عدد من التِيَل، وبالعادة يضعوها في علب حليب النيدو الكبيرة حتى الإمتلاء!

ولعبة الدوّامة هي الأخرى هي عبارة عن قطعة خشبية تشبه الشكل المخروطي المنتهي بمسمار صغير جدًا. الماهر هو من يستطيع أن يرميها بشكلٍ صحيح لتقوم بالدوران على المسمار ثم يقوم بحمل الدوّامة على راحة يده من دون أن يتوقف دورانها. حينئذٍ يقوم اللاعب بضرب دوامة خصمه بدوّامته، فإن استطاع أن يقوم بهذا الدور كسب دوّامة خصمه وأصبحت مُلكًا له!

الطنقور عبارة عن عصا منحوتة من إحدى جوانبها. اللعبة تشترط بالعادة أرضيّة طينيّة أو ترابية مُبللة حتى يستطيع اللاعب رمي العصا بالقوة لترتكز في الأرض. هذا غيضٌ من فيض من الألعاب الكثيرة التي تتطلب مهارات عاليّة من التركيز والقوة والشطارة!

هذا من جانب، ومن جانبٍ آخر، ولكوني نخلاوي صغير أنا وإخواني وجدي السيد صالح رحمه الله كان لا يسمح لنا بالتسكّع مع الأطفال واللعب معهم، كنّا نقضي طوال الوقت من بعد الغذاء حتى حلول المغرب في نخيل جدّي!

رغم أننا نقوم بالواجبات المُلقاة علينا كالسَقاط (تجميع التمور المُلقاة على الأرض) أو الحَش (قص الحشائش بالمَحش وهي أداء مُخصّصة لقص الحشائش) وبالعادة نقوم هذا العمل لتقديمه كعلف للأبقار أو نفرشه في المِربَط (البيت المخصص للأبقار) ليكون مَفرَشًا لهم، أو الخراف (وهو قطف الرطب) أو قطف الثمار الموسميّة كاللوز والليمون والتين والرمّان والجوّاف والكعك والتوت، أو تنظيف التمور من الحَشَف (التمر الفاسد) لتجهيزه وتوريده لمصنع الأحساء للتمور، أو فتح المَسكر (قطع من القماش تفتح وتُسد مشاريب النخيل للتحكم بحركة مياه الري) وذلك لسقي البستان. رغم ذلك كلّه إلّا أنّ طفولتنا كانت مليئة باللعب والشقاوة في النخيل. يبدو أن الطفل له القدرة الهائلة ليكيّف نفسه في أي بيئة مهما كانت قاسيّة ليمارس حقّه الطبيعي في اللعب والذي يُعد جزءً أساسيًّا في سلامة نموّه الطبيعي وتطوّر مهاراته. كان أخي هاشم يلعب معنا لعبة السيّارة بالعيربانة (عربة تتكوّن من عجلة واحدة وتُدف باليد) يأخذنا من البيت حتى البستان، نستخدم عصا وكأنها مقود السيارة. كان أخي عندما يتعب من دف العيربانة يلقيها جانبًا بحجّة أن السيارة تعطّلت ويجب إصلاحها! J

ما إن نصل إلى البستان وننتهي من واجبات جدّي حتى نبدأ بقائمة من الألعاب بين النخيل والأشجار. ابتكرتُ لعبة ولاتزال هي المُفضّلة عندي وهي لعبة الخبّاز. كنتُ أنا الخبّاز أستخدم الطين وكأنه عجين أقوم بالضبط بتقليد الخبّاز في صنع كرات عجينية لكنها بالطين، ثم يأتي إخواني ليشتروا من عندي الخبز. التنوّر هو عبارة عن فريزر انقلب إلى اللون البني من كثرة الصدأ فيه! من الألعاب الجميلة أيضًا لعبة المشي على خشبتين رفيعتين. كنتُ ماهرًا فيها أقفز وأركض بها وأشعر بأني الرجل العملاق! بعض الألعاب كانت عبارة عن شقاوة دفعنا ثمنها بالعقاب الأليم مثل القفز من العريش الذي يعلو ثلاثة أمتار على أكوام من التمر!

اللعب لم ينتهي بعد، فهذا ما بين النخيل، أمّا بين العيون والماء فهي قصّة أخرى أيضًا! أتذكر عمّي السيد باقر يذهب إلى عين المصيريّة في فصل الشتاء بعد صلاة الفجر مُتلحفًا بفروته الدافئة. العينُ ارتوازيّة أي تنبع من تحت الأرض وحارّة جدًا ينبعث منها بخارُ الماء الكثيف لدرجة أننا لا نستطيع النزول في العين مباشرة من شدّة حرارتها وكأنها جاكوزي طبيعي مليء بالمعادن المفيدة! نبقى في العين حتى شروق الشمس! هناك عينٌ أخرى تُسمّى بعين “أم عَمَار” كانت كبيرة وعميقة جدّا يتوسطّها تنوّر وهو منبع العين! أطفال القرية وكما كانوا ماهرين في التيلة والدوّامة والطنقور كانوا أيضًا ماهرين جدّا في السباحة وفي القفز الحر من جذع نخلة مجاورة حتى منتصف العين!

وبعد ثلاثين عامّا وبعدما اختفت هذه الألعاب المليئة بالنشاط وحلّت بدلها الألعاب الإلكترونيّة ظهرت مشاكل وأضرار صحية واجتماعيّة عديدة يعاني منها جيل اليوم مثل أمراض الجهاز العضلي والعصبي للأطفال بسبب تعرضهم المستمر للأشعة الكهرومغناطيسية، وأيضًا أصبح جيل اليوم يعاني من عاهات اجتماعيّة بسبب هذه الألعاب كحب العزلة والأنانيّة وتعلّم مهارات الاحتيال! (1). حينها أيقنتُ جدّا أن أتاري ابن خالتي نبيل لم تكن اللعبة المُثلى بل هي ألعابُنا التقليديّة في أزقّة القرية وبين النخيل والعيون فيا ليتها تعودُ يومًا! 

#أربعونحكايةفيأربعينعامًا

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×