بعضُ ما يُقال عن الشرنقة..!
حبيب محمود
.. وحين خادَدْتُه مهنئاً بالسلامة؛ قال: كان عليك أن تقول رثائي..!
“أهَوْ عنّي” يا أبا طاهر؛ فبعد أزيَد من ثلاثين حولاً من تلك المُخاددة؛ صرتُ مثلك، أبعد ما أكون عن هراءِ الشعر، وغُثاء مَجازاته، وقرَفِ منصّاته، ورقاً، ومِنبراً، وإلكتروناً…!
و “ما حظّي اينال” أنقى من مجاراة ما عليّ مجاراتُه، أو إقلاقِ ثُمالة ما يُفرَض ويُحدَّدُ في الفضاءِ المُستغَلّ..!
ولعلّك باخعٌ نفسك ألّا نعودَ مؤمنَين بالشعر، مثلما كنا نتراكضُ إليه، في حسينيات القديح، قبل أربعين حولاً، وغزلِ “مايكرفون” المُلّا سعيد بنا في دوريّات الموالد، وأعراس “المطاوعة”، وأشكال الدرس المرتجَل بينك وبين ابن خالتك، محمد مكي، في مقامات الحريري، وخرائط ذي الرمة، وسماجة أبي العتاهية:
ألا يا عُتبة الساعه
أموت الساعة الساعه
ما هذا الهراء..؟ كنت تقول..!
لنعد إلى الموضوع؛ فإن ولعَكما بجسد الأنثى، أنت وابن خالتك، فيه ما يحرّض على كتابةٍ تُضارعُ حلق اللحية، وعليهِ تخفّت في كراريسي فحسب. أما ابن خالتك؛ فقد أناب حسن الجنبي في إلقاء قصيدةٍ، ذاتَ منبر، فتجاهل الشاب الذي صار شيخاً فيما بعد؛ قول ابن خالتك “وردفٍ كالكثيبِ إذا تثنّى”..!
يا عليابناطالب..!
أنت على الورطة ذاتها، وأنا أتّهمُك وإياه باختراقٍ موصوفٍ لما درجنا عليه في ذلك العقد المعقّد، أن كنتَ شاعرَ غزلٍ، والقديح “امطوّعة” بما يكفي لئلّا تتقبّل، ولا تأبى، على حال المتمنّعة الراغبة، وعلى سياق “يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره”.
وعلى السواء “غزّرت” في حسينة دعيبل، أم في الحسينية الغربية، أم في مسجد السدرة؛ فلا مشاحة في صدر، ولا ردف، ولا، ولا ولا.
أنت مشبع برغبة جامحة.. إلا أنها شجاعة..!
(2)
حسناً؛ اكتفينا من الموالد والأعراس. أكملنا الدورة بنجاحِ من يُريد أن يمنحه الشعرُ لقباً، ووجاهةً، وشيئاً يُثير السرورَ والغرورَ حين يدخل مجلساً، أو يصافحَ ذا شأنٍ. وأتذكرُ أن قلتَ لي إن مديح أبي ناصر إيايَ أضرّ بي..!
يا لهذا الدرسِ الثمين الذي لم أُدركْه إلا، في بداية الألفية الجديدة، حين أمطرتنا منتديات الحوار بالمدح والثناء والتغرير في لباس التشجيع…!
لقد مشيتُ ذلك اليوم، من أقصى شرق “المزروع أ” إلى أقصى شرق “المحدود أ”، وأصغيتَ إليّ كثيراً، وصوّبتَ ما صوّبتَ، وتلوتَ ما تلوتَ، خارجَ ما يُتلى في الموالد والأفراح:
وإني في يقينٍ أن حظي
من الدنيا سرابٌ في سرابِ
وأنا ما خُلقتُ لرغِد عيشٍ
كأن الحزن والآلامَ دابي
ولو أن القضاء أراد شخصاً
يفجّره، لأقبل نحو بابي
كأني ما اكتفيتُ من الرزايا
كأني ما شبعتُ من العذابِ..!
ثم أعدتني إلى المنزل؛ بسيارتك الأمريكية الضخمة، طراز 77..!
(3)
وليس قليلاً؛ أن وجدتُك في بيت الشيخ عبدالكريم آل زرع، في أواخر 1988م، حين بدأنا نلملم أوراقنا من جديد، في منتدى الغدير. جاء حسين آل رقية، ومحسن الشبركة، ليفلّلا ما كنّا عليه من غنائية وخطابيةٍ ومُباشَرة.
عندها؛ يستجمع الأخوان البيّك، عبدالله ومحمد، قوة المنتدى في منزلهما في “الوسادة”، أو يدعونا السيد الشبركة إلى عشاء أدبٍ أعدّه والدُه في الشويكة..!
أنت تجلسُ قرفصاءك، وعن يمينك “بودي گارد”، عُكّازاك. وكنّا نعلم أن لك فيها مآربَ أخرى، غير أن تجيء بك إلى المنتدى، منها أن تنغرسَ في رمال الدهناء، أو تغوصَ في “خمق” عيون الماء، وفي كلّ حالٍ؛ لن تهشّ بها على أحد..!
وقبل أن تتفرّغ لسيرتك الأهمّ، كنتَ تتوعّد الآتي من العمر:
قريباً ستنفجر الشرنقهْ
ويخرج منها فراخ السلام..!
صدقني؛ حتى أنا كنتُ أردد “قريباً ستنفجر الشرنقه”، كلما تبرمتُ، حتى من تعطلي في شارعٍ..!
ولكنّ الشرنقة انفجرت يا عبدالخالق. انفجرت. “حياة كف العباس” انفجرت. لم تنفجر في “البلبل والناقوس”، ولا “الكابوس المخيف”، ولا “العاصفة الهادئة”، ولا “البركان الهادر”، ولا “حتى مهد الحزن”، ولا أيّ من وُريقاتك “المتفجرة” التي كانت تستفز محمد الماجد، أو ترجُّ حساسية طبلة أذن محسن الشبركة وهو يُجلجل باسمٍ رباعيٍّ: طاهر عبدالخالق عبدالجليل الجنبي..!
لم تنفجر هنا يا عبدالخالق..!
ألم تنتبه إلى أن موتك كان زلزالاً..؟ وأن مشروعك كان فتحاً..؟ وأن “رشالا” كانت تحية..؟ وأن رثاءك أكثر ضآلةٍ من تلك الشرنقة..؟
الكلمة الملقاة في تأبين المؤرخ عبدالخالق الجنبي
اقرأ أيضاً