عبد الخالق الجنبي.. ثالوث النقد والتاريخ والتراث
عدنان السيد محمد العوامي
أن ينشأ امرؤ في بلدة فقيرة من الثقافة و العلم والأدب، وتقذف به المشيئة في بيئة غنية بها جميعًا، فينبغ متفوِّقًا؛ فهذا ليس فخرًا، ولا مجدًا، بل هو المتوقع المظنون، إنَّما ضمُّ الفخر من أطرافه، وتسنَّم المجد في أعلى ذُراه؛ أن تكون نشأته في وسط يعج بالقامات السامقة، ومحيطه تتزاحم فيه المناكب الشامخة فيأتي مجلِّيًا في أول الحَلْبة، سابقًا في مقدم الصفوف.
هذا إذا كان سليمًا معافى من الأذى، صحيحًا من البلوى كأخدانه الأصحاء، فكيف به وهو يشب قرين الوجع، وينمو سمير العلل كما هي حال الراحل الغالي عبد الخالق تغمده الله بواسع رحمته ورضوانه؟
والأهمُّ أن يتقحم (أزقَّة ذات الشوكة)، وهي التاريخ والتراث والتحقيق، ثالثَ أثافيِّ حرفة القلم، يعرف مبلغ وعورة هذه الدروب كل من جرب خوض مضاميرها، والأكثر منها جميعًا حمله السلِّم بالعرض داخلا (أزقة النقد) الضيقة وهي الأكثر صعوبة وحراجة.
وحتى لا يجرفك الخيال بعيدًا، سيدي الكريمَ، فتتوهم حمله ذلك السُّلَّم داخلا في أوساط الصدور، خارجًا من أعراض النحور، قياسًا على ما اعتادت عليه سوحنا الأدبية والصحفية في الاحتراب. أطمئنك – وأنا ممن نازلهم الراحل الغالي – كنت أتناول قنينة ماء (نوﭬـا) في مكتبه بمستشفى القطيف المركزي عقيب كل معترك نفرغ منه، سواء في مجلة الواحة قبل أن تتوقف، أو في الساحل قبل أن يتخلى هو عنها، أو في صحيفة صبرة الإلكترونية لاحقًا، لنرحض يدينا من ريش ذلك المعترك فالرجل (رحمه الله)، بقدر تمسكه بآرائه، وبعده عن المجاملة والمداهنة تراه متمسكُا بصدق، بصداقاته، بريء من المشاحنة، وغُلَواء الخصومة.
ومما تكثر زياراتي إليه في مكتبه بالمستشفى مساع أطلبها منه، إما لحل مشكل واقع لي أو واقع لغيري، فكان لا يدخر وسعًا في بذل أقصى ما فيه وسعه.
في جانب الصلابة وقوة العزيمة يعيد عبد الخالق إلى الذاكرة شخصيات كبيرة لم تمنعها الإعاقة من أن تشق طريقها إلى النجاح، بل إلى التميز، مثل طه حسين الأديب الشهير، وعبد الله الغانم أول مدير لمعهد النور بالمملكة، بولس سلامة الشاعر الملحمي اللبناني، جميل زغيب طبيب الأطفال المشلول بالكامل إلا من حركة عينيه، ومن المملكة الفنانة التشكيلية هيلة المحيسن، المولودة بلا يدين.
قوة الإرادة، ووضوح الرؤية، ونبل الهدف هي أقوى الدوافع للنجاح، ونيل المنى. وفقيدنا الغالي خير أمثلة الوطن، تشهد بذلك بحوثه ومؤلفاته، كتحقيقه لديوان ابن المقرب بشراكة الشيخ عبد الغني العرفات وعبد الله البيُّق، وكتابه هجر وقصباتها الثلاث، وكتابه جرة (أو الجرعاء)، وغيرها، أكتفي بهذه اللمحة الخاطفة عن سيرة فقيدنا الغالي، لأفسح المجال لذوي القدر والقدرة من الفرسان.
الكلمة التي أُلقيت في حفل تأبين المؤرخ عبدالخالق الجنبي