المنهج البحثي عند المؤرخ الكبير عبد الخالق الجنبي

الشيخ محمد علي الحرز

التاريخ بحرٌ واسع يحتاج لخوض غماره ربان ماهر وقائدٌ حصيف قد عركته الخبرة يعرف كيف يشق طريقه بين ثناياه، ويهتدي إلى غايته وهدفه، وإلا طوته أمواجه وغمرته ظلماته، فيضيع في متاهاته لا يعرف طريق الرشاد.

ونحن اليوم، نعيش ذكرى فقد أحد فرسان التاريخ ورجالاته الأفذاذ، صاحب الفكرٌ الوقاد، والعقل النقّاد شخص سبق من كان قبله وسيتعب من يأتي بعده إنه المؤرخ الكبير الأستاذ عبد الخالق بن عبد الجليل الجنبي، الذي ترك في النفوس صدعاً وفي كتابة التاريخ فجوة ليس من السهل رتقها.

فقد تمتع أخينا وأستاذنا الجنبي بمجموعة من السمات التي تشكل شخصيته جعلت منه المرجعية التاريخية للكثير من المهتمين بالشأن التاريخي فقد عرف الأستاذ الجنبي كمرجعاً تاريخياً وبالخصوص للقطيف والأحساء والبحرين، يلجأ إليه طلاب الجامعات والباحثين من داخل المنطقة وخارجها، بما يمتلكه من ثقافة واسعة واطلاع الكبير مع ذاكرة حديدية، وقدرة على استحضار المعلومة جعلته صاحب نظرة ثاقبة ورؤية واضحة في البحث التاريخي، ولعل من أبرز سماته:

أولاً: المصداقية: القضايا التاريخية في الغالب هي مسائل ظنية قائمة على ما وصل لنا من المصادر المكتوبة، أو المنقوله وما يثبته الدليل أو تدحضه الحجة، والمؤرخ الجنبي في نتائج بحثه يؤمن إن المحصلة تكون من خلال خطوات عديدة منها:

1- المصدر المعتمد: فلا يقبل الكلام على عواهنه ما لم يستند إلى مصدر تاريخي معتمد يؤكد المعلومة سواء من خلال المصادر القديمة أو التاريخ الشفهي المدعّم بالحقائق.

2- التحليل العلمي: فهو يؤمن بدور العقل وفق المقدمات المعطاة لنا وبالتالي الخروج بالنتيجة، فتجده كالسباح الماهر يبحر في أعماق التاريخ وفي ثنايا الكتب ودواوين الشعر القديم ليجد إلماحة هنا أو إشارة هناك ليثبت ما يؤمن به.

3- عدم قبول المشهور: إذا كان لا يستند على دليل أو يختلف مع الحقائق العلمية والتاريخية، وهذا المنهج كلفه الكثير من المناوئين والمتحاملين عليه.

ثانياً: الثقافة الشمولية: عرف أبوطاهر بكونه قارئ نهم له طقوسه الخاصة في القراءة والكتابة، ينعزل فيها عن العالم الخارجي، حتى كأنه ليس موجوداً في فيه، هذا المناخ ساعده على التفرغ للقراءة والكتابة فتكونت لديه حصيلة واسعة في التاريخ والأدب واللغة والتراث والجغرافيا القديمة، وغيرها، وهي خبرة يستثمرها في النتائج وإثبات المعلومة.

ومن يجيل النظر في كتبه، أو ينصت إلى محاضراته، يجد انعكاس هذه الشمولية المعرفية في ثقافته واستنتاجاته، ولعل من أبرزها كتابه عن مكان (جرّه)، التي محل خلاف بين المؤرخين وتحديد موقعها من شرقي الجزيرة العربية، يجد كمّ هو سابحٌ ماهر في علم التاريخ، وكيف يستجمع تلك الثقافة الشمولية لتحقيق هدفه.

ثالثاً: الذكاء التاريخي: ونعني به القدرة القوية على السيطرة على المعلومات المختلفة ولملمتها بما يخدم الفكرة التي يريد إثباتها، وذلك من خلال:

1- الإبحار في التاريخ: فهو غواص ماهر يجيد التوغل بين الشعب التاريخية، ويتقن انتقاء الصدف الجيد من الرديء ليجني منها الدرر العلمية الثمينة.

2- هضم المعلومة: وهي من الأمور التي يثير دهشتنا كمهتمين بالشأن التاريخي قدرته على هضم المصادر التاريخية وتطويعها لغرضه البحثي، ليأتي بها بحلة جديدة ككتلة واحدة مترابطة متناسقة الشكل والمضمون.

3- قوة الحجة: أمتلك المؤرخ الكبير عبد الخالق الجنبي قوة الحجة في استدلاله وبيانه فهو فصيح اللسان دامق البرهان يستثمر شتى السبل التاريخية والأدبية والعلمية والجغرافية واللغوية لإثبات غايته، وفي نفس الوقت هو شخصية ليست جدلية بما تحمله الكلمة من معنى فهو يأنف بنفسه عن الخوض في النقاش إذا شعر أنه عقيم بلا ثمرة، حتى وإن أشعر الخصم بالنصر والفوز.

رابعاً: الارتباط بالأرض: فالمؤرخ الجنبي تسري الوطنية في دمه وعروقه، فهو عاشق للأرض محب للوطن، فقد كرّس قلمه وحياته لتاريخ القطيف والأحساء، وفي كتابته حول معشوقتيه القطيف والأحساء نجده:

1- لا يداهن: فهو لا يجامل على حساب التاريخ، ولا تأخذه العاطفة السطحية التي تكون على حساب الأمانة والمصداقية العلمية.

2- الإيمان بمنهج الاختلاف: في نفس الوقت الذي يمتلك الصلابة فيما يؤمن به وما قاده إليه الدليل، نجده يتقبل الرأي الآخر دون أن يفرض وصايته التاريخية على من يختلف معه.

3- التفرّد: إنه قائد وليس تابع فيما يكتب له رؤيته الخاصة التي لم يسبقه إليها أحد، فقد تطرق للعديد من المواضيع الجديدة، مما جعل كتاباته علامة فارقة في عالم التاريخ لا يمكن تجاوزها دون الوقوف أمامها باحترام حتى ممن يختلف معه.

فرحمك الله يا أبا طاهر، أخاً وصديقاً وأستاذاً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الكلمة الملقاة في حفل تأبين المؤرخ عبدالخالق الجنبي

اقرأ أيضاً

في “سيرة أرض”.. ليلة وفاء لتاريخ عبدالخالق الجنبي

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×