خزعل الماجدي يُصارح “صُبرة”: التاريخ التقليدي مليء بمهملات خطيرة خصومي تقليديون واهمون.. وأدباء عاديون.. وأكاديميون ضعفاء منهجياً
اخترتُ الطريق الأصعب لأنه يحتاج إلى معرفة واسعة
حوار: ريهام حبيب
هو الرحالة بين الماضي والحاضر، بين مدن الشرق والغرب، المتعمق في الحضارات القديمة ليتقصى التاريخ الحقيقي، باحثاً عن تأسيس نمط جديد في الفكر العربي، متتبعاً ترادف الوقائع المادية والدراسة العلمية، ملازماً بين الأثر والمعرفة ، ليفكك الملتبس من الأساطير والطقوس والعقائد واضعاً إياها موضع النقد والتحليل، مثيراً زوبعة من اللغط والنقاشات التي أسفرت أخيراً عن جلاء أوهام كثيرة كانت عالقة في أذهاننا حول تاريخ المنطقة.
أنت واحد من الأنثروبولوجين الذين أنتجتهم مرحلة التسعينيات. برأيك ما الذي ميز هذه المرحلة وجعلها علامة بارزة في مجال الأنثروبولوجيا؟
في التسعينات حصلت على درجة الدكتوراه في التأريخ القديم، ووجدت نفسي أمام طريقين: إما أن أبقى في إطار التاريخ القديم الكرونولوجي الصرف الذي يلتزم بمتابعة روتينية للأحداث، أو أن أستفيد مما انتجته تيارات الحوليات والتاريخ الجديد بربط الأحداث الكرونولوجية بالأنثروبولوجي والدراسات الحضارية التي ظهرت مع لوسيان فافر و مارك بلوخ، اللذين وسعا حقل المعرفة التاريخية إلى العلوم الاجتماعية و الاهتمام أكثر بالتاريخ الاقتصادي والاجتماعي، والاهتمام بالنقلة الأبستمولوجية التي عرفتها الكتابة التاريخية مع المؤرخ فرناند بروديل الذي أعطى رؤية جديدة للزمن التاريخي.
وهكذا أخذت الكتابة التاریخیة أبعاداً سوسیولوجیة و آثارية ولسانیة وجغرافیة و دیموغرافیة، وأصبح علم التاریخ يهتم بالإنسان ككلّ، ویدرس المجتمع بدل الفرد، ويبحث في تاریخ البنى الاقتصادیة والاجتماعیة والثقافیة والذھنیة والواقع المحتمل، بدل التاریخ السیاسي الدبلوماسي ووثائق القصور الرسمية فقط.
اخترت الطريق الثاني، وهو الأصعب لأنه يحتاج إلى معرفة واسعة بالعلوم الإنسانية، وحرثت فيه ليغتني بحثي بالكثير مما انتجته حياة الناس وفنونها وأساطيرها وطقوسها، فوجدت كنوزاً لم يؤكدها أحد، ووجدت مهملات كثيرة وخطيرة في الوقت نفسه، فقررت أن آخذ المهمة على عاتقي وأبحث في أنثروبولوجيات الحضارة والأديان والأساطير.. وفي كل العالم، وكانت مهمة شاقة وصعبة جداً لكني قطعت فيها شوطاً مهماً.
درامي يصحح التاريخ
بدأت مسيرتك الإبداعية شاعراً ومؤلفاً مسرحياً، ومن ثم جاءت مرحلة الأنثروبولوجي.. كيف تصف انتقالك من مؤلف درامي إلى باحث يعمل على تصحيح التاريخ وتحريره؟ وكيف اختلفت أدواتك الإبداعية في كلا المجالين..؟
كانت نقلة عظيمة في حياتي، فقد كنتُ مولعاً بقراءة وتتبع الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية، وكان اهتمامي منصبّا، في البداية، على الأساطير لأنني وجدتها قريبة من الشعر والمسرح، وقد أفادتني كثيراً في تحفيز كتاباتي الشعرية والمسرحية. لكني وجدت نفسي مولعاً بالتأويلات الأسطورية ومادتها ورموزها، وكانت رغبتي تتصاعد في الكتابة عنها فدونت كتابي سفر سومر (الذي أصبح اسمه فيما بعد إنجيل سومر) ثم (إنجيل بابل)، لكن النقلة العظيمة كانت قد تهيأت مع دراستي الأكاديمية وانتهائي منها، وهنا دخل منهج البحث العلمي بقوة وأصبح هو سبيلي للمضيّ في الحقول التي ذكرتها.
الشعر والمسرح، كنصوصٍ إبداعية، لا يحتاجان مناهج بحث، لكني بحثت فيهما أيضاً كمادة فكرية، بمناهج بحث علمية لاتختلف عن المناهج التاريخية والأنثروبولوجية.
الأمر يُشبه من يعيش قصة حبٍّ فينغمر بها بكل ما يملك من حرارة وانفعال، وحين يُطلب منه أن يكتب عن الحب وأنواعه وتاريخيه فيتجهّز بأدوات معرفية ويفعل ذلك ببرود ودون انفعالٍ. تجدين الأمر مختلفاً بالكامل، لكني عشتُ الإثنين بقلبين مختلفين وبعقل واحد.
لا تراجع
ألم تفكر في التراجع أمام الصعوبات الكبيرة التي واجهتها خصوصاً وأنت تتناول قصصا من الكتب المقدسة وتضعها موضع النقد والتحليل؟
لا.. لم أفكر مطلقاً بذلك، لأن نيتي علمية خالصة ولاغاية مسبّقة لي دينية أو سياسية أو فكرية، كنتُ أطبّقُ بإخلاص ماتعلمته من منهج البحث العلمي، ولذلك تجدين احترامي للأديان وللكتب المقدسة صريحاً وواضحاً، لكن ذلك لا يمنعني من تحليلها علمياً. ما تسمينه النقد والتحليل هو نتاج تطبيق أدوات البحث العلمي عليها وليس نتاج قصدٍ مسبّق مني ، والفرق كبير.
العلوم الإنسانية والفلسفة
هل وصلنا إلى مرحلة توضحت فيها المفاهيم بحيث بات الأنثروبولوجي والأركيولوجي والباحث في علم الأديان أقل اكتراثاً بالدفاع عن شرعية فلسفة تحليل النص و الحدث دون وساوس أو قلق دفاعي لذلك؟
هذا صحيح جداً، العلوم ـ ومنها العلوم الإنسانية ـ أكثر ضبطاً، من الناحية المنهجية، من الفلسفة، فهي تخضع لمناهج جديدة دائمة وغايتها استنباط الحقائق. بينما الفلسفة مقترحات تأملات في الظواهر تتعدد مع تعدد الفلاسفة وأنواع تيارات الفلسفة ويمكن نقاشها على أساس التحاور معها وليس على أساس البحث العلمي فيها، فهي تمتنع عن اي استجابة للبحث العلمي.
التاريخ الموروث.. خطر
هل قراءة وفهم التاريخ وفق نمطية تراثية يشكل خطراً على مجتمعاتنا؟
بلا شك.. فهي تكريس للأخطاء والأوهام والأكاذيب التي يعج بها ماضينا المكتوب، وخصوصاً في مروياته، التراث قالب راسخ متوارث منذ آلاف السنين تدوّن في مراحل بسيطة للوعي الفكريّ، ولابد من إعادة قراءته وفق مناهج البحث العلمي المتجددة دائماً والزاخرة بطرائق ناجحة في الرصد والتحليل.
تطوير المجتمع
هل الطريقة التي نفسر فيها الماضي تخدمنا في تطوير المجتمع الذي نعيش فيه، وفي توجيه مستقبله؟
تخدمنا في حالة علميتها ودقتها في التحليل، وتدمرنا في حالة تكريس تقليديتها والقبول بها كما هي، الماضي الوسيط، بشكل خاص، مبني على المبالغات والأكاذيب كرسته الكتب الصفراء وحوّله الشيوخ إلى مقدسات وهمية، واصبح راسخاً في العقول قبل المكتبات، أنه يمشي معنا في الشوارع والحياة اليومية ويسيّر كل أفعالنا، ولذلك لابد من الإلتفات إليه بقوة وصنع مكاشفة علمية حقيقة معه لكي ينكمش غوله المخيّم على عقولنا وعقول البسطاء من الناس ، بشكل خاص ، والذي تحوّلوا الى قطعان خائفةٍ بسببه.
التاريخ الموازي
اليوم في فضاء التواصل الاجتماعي نشهد اهتماماً كبيراً بالأنثروبولوجيا، هل سينجح التاريخ الموازي الذي تقدمه الانثروبولوجيا الجديدة في تتغيير المفاهيم فعلا أم هي مجرد موضة ثقافية ستتلاشى لاحقاً؟
نعم سينجح لأن الناس تثق بالعلوم الطبيعية والإنسانية، وقد ملّت من تهافت وترهل المرويات، ولذلك فهي تريد فضاءً جديداً يجدد ثقتها بمعرفة الواقع والماضي، سيقبع رجال الدين والسلفيون في جحورهم ويرددوا الأقاويل والأخبار الوهمية بينهم مع قلةٍ جاهلة، لكن الناس ستسعى للحقيقة وتؤمن بها.
3 خصوم.. غوغاء
كانت الردود على أفكارك انفعالية سلبية أكثر من كونها نقدية ، كيف تعاملت مع عنف هذه الردود ، وكيف انعكس ذلك شخصياً على مهاجميك من الوسط الثقافي؟
لا يهمني عنف الرود لأني أعرف منطلقات دوافعها، ففي هذه الدوافع يكمن الخلل، ويمكنني تصنيف هؤلاء إلى ثلاثة أنواع،
الأول هم السلفيون والعقائديون الذين يتصورون أن العلم يتربص بالأديان والعقائد وهذا وهم ما بعده وهم، وهم بالتالي يعتبرون البحث العلمي كفراً وجريمة وهذا هو مقتلهم .
الصنف الثاني من الذين يردّون ويهاجمون هم من أنصاف وأشباه المثقفين الذين يجهلون العلوم الإنسانية وطبيعتها. وهؤلاء في الغالب من الأدباء العاديين الذين عاشوا كل حياتهم على كتابة الشعر والسرد دون أن يعرفوا شيئاً عن العلوم الإنسانية.
الصنف الثالث هو من الأكاديميين الذين يعملون في الحقل الذي اعمل فيه وهم فاشلون في التأليف أو في طريقة إيصال أفكارهم أو يعانون من ضعف في الوجاهة ويمتعضون مع انتشار وشهرة أفكاري وكتبي، ولذلك لا يظهر منهم ما هو مفيد سوى التحريض المضاد والتسفيه والأحقاد التي باتت مكشوفة لمن يتابعهم ومن يعرفني.
أما غوغاء هؤلاء الأنواع الثلاثة فهم مجرد ذباب الكتروني جاهز للتطبيل في كل زمان ومكان.
التاريخ الموازي.. واقعاً
هذا سؤال فانتازي.. ما الذي سيحدث، في توقعات خزعل الماجدي، لو ان التاريخ الموازي هو التاريخ المعتمد؟ ما الذي كان يمكن أن يحدث ولم يحدث؟ وماذا لو كانت أحداثاً تاريخية مفصلية أخذت منحى آخر فهل ستبقى الخارطة كما هي؟
لاشك أنها كانت ستأخذ تبدلات كبيرة ونوعية، لكني أود القول إن شعوب الأرض اليوم كلّها نشأت على أساس التاريخ المتواتر التقليدي الذي قادها إلى يومنا الحاضر كما هو ، وإن المراجعة الآن لن تغيّر في الأمور كثيراً بل ربما ستفتح بصيرتنا على وعيّ عميق وانتباهات نوعية.
أقول بكل صراحة أن التاريخ الحديث والمعاصر يعتمد على قوانين مختلفة كليّا عن قوانين التاريخين القديم والوسيط، والتحدي الأكبر الآن هو كيف نبني حاضرنا على أساس هذه القوانين الجدية التي قد ترفع شعوباً هامشية صغيرة إلى الأعلى، وتحطّ من شأن شعوبٍ كبرى ،نرحت من الماضي، ولم تتدبر الحاضر.
الصهيونية.. علمانية
في خضم الأحداث التي تجري في فلسطين والمأزق التاريخي الصهيوني. ماذا لو كانت مسيرة الصهيونية معتمدة فقط على التاريخ الموازي؟ وكيف كان سيتغير المشهد كلياً في الشرق الأوسط ؟
ربما ستندهشين إذا قلت لك إن الصهيونية حركة علمانية (كان يفترض أن تأخذ بالتاريخ الموازي) لكنها أخذت بالتاريخ التقليدي للمرويات وبنت عليه فكرة عودة اليهود إلى فلسطين بهذا الشكل، اذن هي في الإطار علمانية ولكنها في المضمون تقليدية.
ماي حصل اليوم مفارقة مدهشة وهي أن اليمين الإسرائيلي تبنى الصهيونية الجديدة التي ترفض التاريخ الموازي (الذي نشره اكاديميون وعلمانيون اسرائيليون) وتبنت التاريخ التقليدي بقوة وتطرف، فكان مصيرها أن تقع في حبال توترها وتسقط في شرك غزّة، وستسقط حكومة اليمين حتماً وتذوي أفكار الصهيونية.
التأريخ يسير وفق طرقٍ متعرجة يصعب فهمها وقونننتها من قبلنا.
الماجدي شاعراً
أريد أن أنتقل إلى وحي الشعر وأنت لديك الكثير من المؤلفات في الحقل الشعري وأنت واحداً من شعراء السبعينيات في العراق، كيف تصف تلك التجربة؟
تجربة عظيمة خضتها بقوة ومغامرة، وكنت في طليعتها مع أصدقاء رائعين من الشعراء، فنتج عنها تراث شعريّ عظيم يُضاف لتراث الحداثة الشعرية في العراق وحفزت ظهور أجيالٍ بعدنا مازالوا يضيفون للشعر الحديث.
كان الشعر العراقي قبلنا رومانسياً سياسياً وعافياً، وجاءت وهلة قصيرة من الوعي المغاير الذي احدثه جيل الستينات لكنها لم تستمر، وحين ظهر جيلنا استفاد مما حصل وعمّق نتاجه في اتجاه تأمليّ وجماليّ وروحانيّ فكان لشعره نكهة جديدة غير مسبوقة.
من يقرأ أعمالك الشعرية يجد أنك أيضاً مغرم في مطاردة الماضي. فهل كنت تسعى لكتابة ملحمة جديدة لها نكهة عصرنا وملامح حياتنا الراهنة عبر صراعاتنا كبشر ؟
كتبت ملحمة من هذا النوع وهي (أحزان السنة العراقية) تابعت فيها أحداث سنة 2006 في العراق، وتحدثت فيها شعراً عن الكثير مما فكرت فيه ورأيته في زمني، هذه الملحمة مكونة من حوالي 365 نصاً شعرياً على عدد أيام السنة وختمتها بأربع نصوص تحاول ان تتلمس المستقبل، نشر العمل بطبعتين بأكثر من 800 صفحة.
وهناك عملٌ ملحميّ قادم أشتغل فيه يمضي في اتجاه آخر، يصعب عليّ الآن ذكر اسمه ومضمونه.
أين القاريء..؟
ونحن نحيا عصر التواصل الاجتماعي يخطر لي أن أسالك عن موقع القارئ لديك وما المساحة التي يشغلها في ذهنك وفي نصك؟
القارئ هو هدف ما أكتبه، مسؤوليتي نحوه أصبحت كبيرة جداً مع كتبي الفكرية بشكل خاص، اكتشفت أن الكاتب كلما اعتنى بكتابه تبويباً وشكلاً ومضموناً وكلما كتب بوضوحٍ ودقةٍ فإن ذلك ينعكس إيجابياً على اهتمام القراء به.
الأعمال الشعرية فيها خصوصية تجربتي قد تروق أو لا تروق للقارئ لأن الشعر ابداع خاص ودقيق، أما الأعمال المسرحية فهي تحمل من الخصوصية والعمومية الكثير ومن حق الجمهور الحكم عليها بما يريد.
ما الكتاب الذي تفضله بين كتبك؟
كلّ كتبي عزيزة عليّ، لكن كتبي في سلسلة تاريخ الحضارات، وهي عشرة كتبٍ لحد الآن، أصبحت تشكّل أكبر وأغنى كتبي وهي مثار اعتزازي الكبير.
هل يوجد كتاب تحب أن تكون أنت من كتبه؟
ربما حصل ذلك معي في وقت مبكر، لكني الآن لم أعد أتذكر هذه الكتب فقد كتبت ونشرت الكثير وحققّت بعض ماكنت أتمنى كتابته
في الختام أود أن أسألك عن نتاجك القادم ؟
سيكون العام القادم 2024 حافلاً بنشر كتبٍ جديدة وهي كما يلي:
1.في سلسلة تاريخ الحضارات: الحضارة الصينية بجزئين، الحضارة الإيرانية.
2.في سلسلة تاريخ الأديان: الدين الآشوري ، الزرادشتية.
3.في الشعر: لأنكِ تحبين الورد، لا بد من أخطاءٍ أيها الصديق.