علي الحرز.. عقود في ملاحقة الكتب والوثائق
أثير السادة*
بعد التجوال بين ممرات الكتب، في مكتبة فارهة بعناوينها، تلفت إليه سائلا: وأين كتابك الأول..مؤكد بأن صديقنا الأستاذ “أبو كفاح” قد واجه هذا السنوات في مشواره الثقافي مرات و مرات، وأنه سبق الآخرين بسؤال نفسه عن موعد الكتاب الأول، كلما وضع كتابا على آخر، وقلب صفحة بعد أخرى وهو يطالع حصيلة عقود من ملاحقة الكتب تمثل أمامه هذا السؤال الملح والقلق، لأن الكتابة في عرف الناس هي قرين القراءة، حتى في زمن الكتاتيب، سيقال بأن الواحد منهم قد أتم القراءة ثم راح يكتب، وقد تكون الكتابة مجرد نسخ لكتب أخرى ككتب الوفيات، لكن كل ذلك يذكرنا كيف تبدو القراءة برزخا للوصول إلى عالم الكتابة.
ربما كان السؤال باردا، أو ابتدائيا، يخفي في جنباته بساطة في التحليل، فليس كل الذين يقرؤون في هذا العالم ينتهون إلى خوض تجربة كتابية، غير أن الذين وجودا أنفسهم في معترك الكتابة يتذكرون جيدا كيف يمتلئ الواحد منا برغبة الثرثرة كلما أكمل كتابا، وحرك فيه مشاعره وأفكاره..هذه الثرثرة لعلها ما كنت أبحث عنه في سؤال عاشق لجمع الكتب وقراءتها في آن معاً، أو لعلها رغبة في البحث عن جواب مثالي لسؤال مازال يطاردني منذ طفولة الحرف والكتابة..سيجيب صديقنا بجواب مقتضب، يهرب معه إلى الصفحة الثانية من حوار ممتد على مائدة الكتب، لا شيء سوى غلبة هواية الجمع على كل شيء آخر، والانشغال بإيجاد إرشيف كما يصف يحفظ ذاكرة المكان وأهله من خلال قصصات الصحف والمجلات، فضلا عن الكتب النادرة التي يحتاجها الباحثون في طريق بحثهم.
لم يكن مفهوما بالنسبة لي في مطلع القراءة صورة المثقفين الذين يجمعون الكتب ويقرؤون ولا يفيض منهم شيء، حتى جلست على دكة القراء زمنا وشعرت بكثير من الرهبة تجاه الكتابة، وتجاه النشر، أتفهم هذا الشعور المربك الذي يحاصرك وأنت تفكر في التسخين للنزول في مباراة لا تعلم أي مركز يلائم لياقتك وقدراتك المهارية، وأنت الذي في كل لحظة تمضي إلى عنوان جديد، تعانق موضوعا هنا وموضوعا هناك، لتكون صورة متضخمة لمعضلة الكائن “الكشكول” الذي يكافح الانغماس في اختصاص أو حقل فكري ما لأجل الحفاظ على ذاكرة تتمدد أفقيا لا أكثر.
لماذا أكتب، سؤال هو الآخر قد يكون محتملا كجواب معاكس عن سؤال “لماذا لا تكتب”، مما يسمح بالهروب إلى النهايات، على اعتبار أن البحث في فلسفة الكتابة وقيمتها مرتبط بالنضج الذي يتحول فيه فعل الكتابة، من مجرد رغبة تبدأ بإعلان صريح “أريد أن أكتب”، يعبر به الفرد فوق قنطرة سؤال لاحق هو “ماذا أكتب”، إلى حالة تأمل عميق في ماهية الكتابة وحضورها الإنساني..القفز لهذه النهاية مبكرا هو محاولة لإماتة الشعور القلق الذي تجلبه جلسات القراءة، الشعور بضرورة أن يستحيل هذا المقروء إلى فعل، إلى سلوك، إلى فكرة تترجم في صورة مشروع ثقافي ما.
جدل هو إسم المكتبة التي يعتني بها أبوكفاح بنحو يشعرك بأنه يعتني ببستان، لا يضيره فيها أن يجمع المتناقضات، فهي بالنسبة له من مقدمات هذا الجدل الذي يدافع عنه، فالكتب القديمة تسترخي على الرف في مقابل الكتب الحديثة، وكتب أهل اليسار تحاور كتب أهل الدين، كأنه يحاول إعادة تصميم الواقع وفق صيغة تتعايش فيها كل هذه المعارف وتصبح عنوانا للثراء والعبور المعرفي على حد سواء…وقد تركناه على وعد أن نعود له لنجادله عن سنوات الركض وراء الكتب، وعن المغامرات والمتاهات، وعن الأمنيات والخيبات، وأن نجعل من كل تلك الإشارات الكثيفة طريقا للوصول إلى كتابة سيرة هواية نبيلة قد يطويها الزمن.
* بالشراكة مع صفحته في “فيس بوك”، وإذنٍ منه.