شخصية حميد بن مسلم الأزدي الكوفي [2]
مؤيّدات معارضته للإمام الحسين (ع)
من أبرز ما يُستدلّ به على كون حميد بن مسلم شخصًا معاديًا أمور، منها:
الأول عندما تحرّك الإمام الحسين (ع) معارضًا ليزيد بن معاوية، لم يكن ذلك تحركًا سريًّا، وإنما خرج (ع) ثائرًا بصورة علنية واضحة المعالم والأهداف، وأعلن عن حركته المباركة من مكّة المكرّمة قبلة المسلمين وفي أيام أداء فريضة الحجّ، ما ساعد على انتشار أمر تحرّكه وثورته ضدّ يزيد.
وعندما يعلن الإمام الحسين (ع)، وهو ممّن يعلم جميع المسلمين أنه ممّن نزلت فيهم آية التطهير، وأنه من أهل البيت (ع)، عندما يعلن ذلك، فإنّ نصرته وتلبية دعوته والاستجابة لناعيته واجبة على الجميع. ذلك أن ما يرويه المسلمون جميعًا عن رسول الله (ص) وجوب نصرة أهل البيت (ع) عندما يعلنون طلب النصرة، فقد ورد في الخصال للصدوق، ص 626؛ وتفسير فرات الكوفي، ص 309 الحديث: «من شهدنا في حربنا أو سمع واعيتنا فلم ينصرنا أكبه الله على منخريه في النار». وهو معنى يرويه الطبري في تاريخه، ج4/ 308، وابن أعثم الكوفي في فتوحه، ج٥/ ۷٤، عن الحسين (ع) أنه قال: «لا يسمع واعيتنا أحد ثُمَّ لا ينصرنا إلا هلك». وعندما يتخلّف أحد المسلمين عن نصرة الإمام الحسين (ع) مع سماعه لناعيته، فلا يبعد كونه مخالفًا له، وأنه يقف مع الطرف الآخر.
وفي هذا الأمر يشترك حميد بن مسلم مع كثيرٍ من المسلمين ممّن سمع ناعية الإمام الحسين (ع) وتخلّف عن نصرته.
الثاني إرسال عمر بن سعد رأس الإمام الحسين (ع) إلى عبيد الله بن زياد في الكوفة، وكان الرأس مع خولي بن يزِيد الأصبحي وحميد بن مسلم الأَزْدِيّ(13). فائتماره بأمر عمر بن سعد ومشاركته في حمل رأس الإمام بعد كل ما شاهده من أحداث مؤلمة ومؤثّرة في واقعة كربلاء دليل على إصراره على موقفه المعارض للإمام (ع). بل إنّ ائتمان عمر بن سعد له ولرفيقه الأصبحي على الرأس الشريف دون غيرهما دليل على قربهما منه، وحظوتهما عنده.
الثالث أن حميدًا بن مسلم كان مِمَّن تعقّبهم المختار الثقفي في ثورته وحركته الانتقامية ممّن شارك في المأساة الكربلائية.
ومن المهم الإشارة إلى أنّ حميدًا بنَ مسلم، مع كونه أحد عناصر جيش عمر بن سعد، إلَّا أنّ ذلك لم يكن ليعني مقاتلته ورفعه السلاح على الإمام الحسين (ع) وأصحابه (رض)، وإنما يظهر من أحداث المعركة أن دوره اقتصر على الحضور والاصطفاف مع أحد المعسكرين فقط، وكأنّه حضر لتدوين الوقائع فقط.
مناقشة هذه المؤيّدات
في مقام الجرح والتعديل، لا يُبنى تقييم حميد بن مسلم على موقف المختار الثقفي منه؛ فالخطأ وارد في اتخاذه لمثل هذا الموقف، مع إمكانية صوابيته، خصوصًا مع الالتفات إلى اختلاف رجاليي الإمامية في تقييم المختار الثقفي نفسه، فكيف يُتَّخذ موقف من شخصية بناء على موقف المختار منها. وما يبعث على التردّد في ذلك تقرُّب حميد بن مسلم من أصحاب أهل البيت (ع) والمقرّبين منهم، كإبراهيم بن مالك الأشتر، وتردُّده أيضًا على المختار الثقفي، إلى أن لاذ بالفرار بعد ورود اسمه ضمن قائمة المشاركين في جيش عمر بن سعد.
أما بخصوص مشاركته مع جيش عمر بن سعد، وبعد ذلك حمله لرأس الإمام الحسين (ع)، فتلك من معاصيه بلا شك، ولكنها لا تعدّ كافية لإثبات انحرافه إلى ما بعد حادثة كربلاء، فلعلّه ندم على فعلته، وبخاصّة عندما تثبت مشاركته في ثورة التوابين، بل إن البحث يوصل إلى بعض مؤيّدات توبته، وإن لم تكن صريحة في ذلك.
مؤيّدات انتقال حميد بن مسلم إلى الضفّة الأخرى
ــ اهتم حميد بن مسلم بنقل أحداث واقعة كربلاء اهتمامًا كبيرًا ودقيقًا، وبخاصّة ما يرتبط بمصرع الإمام الحسين (ع)، كما أنه اهتم بنقل الحوادث والمواقف بصورة مؤثرة وأقرب إلى الحياد في التصوير منها إلى الانحياز لجانب جيش عمر بن سعد. ولأنّ نقل هذه الأحداث وروايتها تمّ بعد الحادثة، لعلّها تكون مؤشّرًا إلى انتقاله إلى ضفّةٍ أخرى.
ولو لم ينقل حميد بن مسلم هذه المآسي والأحداث المفجعة، لاندثر بعضها ولم يعد لها ذكر.
ــ ومن أقوى الشواهد على توبة حميد بن مسلم: ما يذكره بعض المؤرخين عن انضمامه إلى جيش التوابين بعد واقعة كربلاء، ولذلك يترحّم البعض عليه، انطلاقًا من الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [سورة آل عمران، الآية: 135 – 136].
ــ وفي موقف آخر مؤيّدٍ ينقل الطبري في تاريخه، ج5/ 438، ما يلي: «.. نادى شمر: عَلَيَّ بالنار حَتَّى أحرق هَذَا البيت عَلَى أهله، قَالَ: فصاح النساء وخرجن من الفسطاط، قَالَ: [وصاح به الحسين: يا بن ذي الجوشن، أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي عَلَى أهلي، حرقك الله بالنار!] قَالَ أَبُو مخنف: حَدَّثَنِي سُلَيْمَان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قَالَ: قلت لشمر بن ذي الجوشن: سبحان الله! إن هَذَا لا يصلح لك، أتريد أن تجمع عَلَى نفسك خصلتين تعذب بعذاب الله، وتقتل الولدان والنساء!، وَالله إن فِي قتلك الرجال لما ترضي بِهِ أميرك، قَالَ: فَقَالَ: من أنت؟ قَالَ: قلت: لا أخبرك من أنا، قَالَ: وخشيتُ، وَاللهِ، أن لو عرفني أن يضرني عِنْدَ السلطان، قَالَ: فجاءه رجل كَانَ أطوع لَهُ مني، شبث بن ربعي، فَقَالَ: مَا رأيت مقالًا أسوأ من قولك، وَلا موقفًا أقبح من موقفك، أمُرْعِبًا للنساء صرت؟!، قَالَ: فأشهد أنه استحيا، فذهب لينصرف».
فإن صحت روايته لهذا الموقف، فإن له دورًا في الحفاظ على حياة الإمام زين العابدين (ع) ومن معه من النساء والأطفال. كما يُظهر هذا الموقف أيضًا عدم وجود عداوة أو موقف حادّ تجاه الإمام الحسين (ع)، وأن حضوره كان لمصلحة دنيوية وحسب.
إنّ ما تُظهره هذه المواقف، التي تصل إلى حدّ التعارض في شخصية حميد بن مسلم، تدعونا إلى دراسة شخصيته دون الاقتصار على كونه راويًا من رواة وقائع كربلاء، كما أنّ شخصية حميد بن مسلم تفتح آفاقًا بحثية لدراسات موسّعة حول العديد من الجوانب غير المدروسة في شخصيات صدر الإسلام الأول وطبيعة العلاقات الاجتماعية البينية في ذلكم الحين.
——-
(13) تاريخ الطبري، ج5/ 455؛ والكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج4/ 80؛ وأنساب الأشراف، ج3/ 206؛ ومثير الأحزان، ابن نما الحلي، ص 84؛ واللهوف، ابن طاووس، ص 142؛ وأعلام الورى، الشيخ الطوسي، ص 251؛ والإرشاد، الشيخ المفيد، ج2/ 113.
[يُتبع في الـ 9 من صباح الغد]