[قراءة] علي مكي الشيخ: ألواح الطين.. في كهف نيتشه
علي مكي الشيخ |
ألواح الطين.. في كهف نيتشه..
لاماءَ يسرقُ مِنْ فمي أملاحَكْ
فاملأ هروبك كي أكونَ صباحَكْ
متآكلاً نهم الجفاف بشهقتي
ظلي يُرَمِّمُ..بَعضُهُ أقداحكْ
وَدَخَلْتُ خارج نشوتي متوهمًا
أني هناك..ولم أكنْ مصباحكْ
وكثيمةٍ..عبرت تقول لأختها
إنَّ النبوة تشتهي ألواحكْ
أنْ تفتح نصف إدراكك على شكٍ يهندسُ حتمية العزف بوتر الغفلة المتيقظة بعدمية القطع.. أنْ تتبَلَّل بجفاف شهوتك المشغولةِ بعطشِ الخطيئة لتفاصيل المحو..
أن تترسَّبَ سلطتُكَ العليا كجراب ليلي تتأكسد فيه لثغةُ الفراغ..
أن تراقص لغة الهدِّ في أنين الفناءِ بين قدميك المتملصتين من قيد السقوط على أحراش الكلماتِ المتخثرةِ بالزمن..
أن تتسَّرب مِنْ ثقوبك كرائحةٍ تنتهك صلواتِ الجسد المستفزِ للأثير؛ ذلك يعني أنك تُضيفُ لقراءتك..
“ألواح الطين”
وأنت تجلسُ مع وحدك “في كهف نيتشيه” حيث يتسَّربُ إليك من نافذةٍ كهف زارادشت فيلهو بك على عتبتهِ الأولى (صغيرًا على السكر) تداعبك عقاقيره المسلية ممتنعًا احتساء شايه البارد مع الليمون المدني، متلذذًا بموسيقا التعب، ليأخذك معه لمشاهدة غرابٍ سينمائي لسانه جثة باردة وشفتاه مِنْ زجاج، ويقف أمامك مهرج يضحك من انفعالاتك وبكائك الخجول..
يتسرب بعدها إلى شعرية الجسد التي لم تَحتَسِ الكرى دفعةً واحدة وهو يفكر بالموت كخلية لا تعشق سهوًا ولا غفلة، يحتفظ بشهوة أواره الذي يعري أسرار سديم النبض فاضحًا أريج غيبه في الكهف هاربًا من فتنة الظل مُبَشَّرًا بحلوى الموت وهو يدفن ضحكه كغراب حنون في ألواح الرمل، ناحتًا في صحيفة أزله المائعة “وحده الموت لا ينتهي بالموت ولا يبدأ بالحياة.. “
يتساوى عنده الكره بالخجل فهما استجابةٌ مؤقتةٌ لرائحة قَدَرٍ ما، مستجيبًا لفطرةِ الكائن الحي الذي يسكنه يتوشى بحكمته كمبتكرٍ لثيمةٍ إنسانويةٍ فيوقع على لوح ذاكرته ” القبلةُ ثُلمٌ في الشفاه.. يتنفسُ منها الربيعُ وجوده العربي الطارئ “
ونجده يرتقي في تأصيل فكرة التلقي واستقبال العمل النصي بأدواق أكثر فاعلية للإحاطة بطبيعة النص الزئبقية بتعبير “إمبرتو إِيكو” نراه يؤسس لفكرة “تأهيل القارئ” ففي نص ” القمة ” يقول:
“القراءة هي إعادة الكتابة بعد التحرر من هوس الأغشية”
“إطار لكنه جزءٌ من حميمية الخلق” القمة ص 25
ويأخذك في “خجل الكره” إلى سلب الحكم بانتقاء الموضوع إذ يقول:
– لماذا أتخذك عدوًا.. وأنا لم أمتهن التفكر فيك!
– لماذا أحسدك.. ولساني لا يتذكر اسمك..
– لا أحبك لأنني لم أفكر بكرهي لك ولا أكرهك لأنني لا أبصرك ” ص34
إنه استجابةٌ مؤقتةٌ لكرهٍ كالخجل برائحة قَدَرٍ ما..
كائنه الشعري لا يهدأ عن مشاطأة لكنه الصمت في لثغة المعرفة حيث لا يتوقف إلا بخلق حراكٍ في حيز فراغه كسردٍ إيقاعي يتجاوزه ويقفز عليه بربع نوتةٍ عند الغناءِ موقعًا تُلم نشوته على لوحة ذاته..
– في لحظة تذكره يكتب على قصاصات الريح حَدْسَهُ.
يحتفي بألمٍ لا يشاركه أحد فيه وبفرحٍ لا يقاسمه المارة حيث يهرب كل مرةٍ من أصابعه “
وفي دفقةٍ شعريةٍ بصريةٍ يُقرِبُ عدسته لمشهدٍ “كركترٍ” جميل يقدمه ببراعةٍ فائقة يقول في “احتفاء”
” البعوضةُ
تعرف كيف تقفزُ
تعرف كيف تَهْزَأ بالريح.. حين ترتدُ خطوةً هوائية
ثم تُهَرِّبُ بسمةً تحت جناحيها ” ص44
يقف معك أمام المرآة ليعري حقيقة إيمانه بالحب والجمال والبياض= المرآة صحبة آمنة= حيث “الالتماع متحقق بذاته” هامسًا بفلسفةِ الماوراء.. يقول:
” المرآة هي أن تبتسم.. عندما ترى ظلك يبتسم أو يتجاهل انعطافك وقت الابتسام”
“ما وراء المرآة حالة بحث.. والبحثُ عُلْقةٌ عاطفيةٌ مع المأمول صديقٌ له ذاتُ تكوين المرآة.. لا يهتم بزاوية انعكاس ظلك كما تعلم هو إرثك الوحيد لتركة الصلب” ويطل عليك من عليائه معلنًا..
“أنت في وحدتك العلوية.. كآخر زفرةِ دخان الملائكة.. تبحث عن شريك..”
وفي “الحكمة رغوة” يعودُ ليؤكد على قيمة اللا تعالي..
– الرغوة تصبح أكثر حكمةً وهي ترتدي الريح وأكثر تواضعًا وهي تتخلص مِنْ جلدها
– وأنت المسكون بغنائية الرائحة
تغفلُ ببساطة الحكمة..
وَتُفتِّشُ عن علاقة اللون بالزمن”
وبين كل هذا وذاك فهو يلتذ بثمار السَّرد، وعنقود داليةِ فكرة وندوب مطر آلهة وتخثر قِشرٍ قديم وتخمُّرِ أمنيةٍ جديدة..
* ثنائية ألواح الطين..
يقول الدكتور الغذامي..
بـ “ضرورة التفريق بين المؤلف المعهود، وهو الذي أنتج النص مباشرةً وهوالمؤلف الذي ينسب إليه النص..
والمؤلف الآخر يسيمه “المؤلف المضمْر” الذي هو الثقافة ذاتها التي ينتسب إليها النص ومؤلفه المعهود بمعنى أنَّ المؤلف المعهود هو ناتج ثقافي مصبوغٌ بصبغة الثقافة..
بناءً على هذا التصور يكون المؤلف الحقيقي اندماجًا بين مؤلفٍ معهود “ومؤلفٍ مُضْمر” ينتجان المؤلف المزدوج المرتبط بالدلالة النسقية
فَيُعَرِّي رائد الجشي عن جزءٍ مهم في باعث الكتابة لهذه الألواح وإعلان المحرض عليها وهو ” في كهف نيتشه ” وهنا لدينا ثنائيتان:
الكهف = نيتشه
رائد = نيتشه
هذا على المستوى العنوان والقراءة السيميائية له.. وفي قراءة للفوتوغرافي الجميل الأستاذ محمد الخراري في تعليقه على غلاف الديوان وترابطه بالعنوان..يقول:
– الكهف/ دلالته الغموض/ الظلام/ العتمة/ العزلة.. والكرسي الفارغ المهجور والغارق في الظلال يعطيان تناسبًا وتآلفًا كبيرًا بينهما.. والصورة ككل يلونها الأحادي تؤكد ذلك العنوان بطريقة إبداعية مختلفة عن الصورة الذهنية لدى المتلقي ومناسبتها للغة الديوان”
إذن حتى من خلال اللوحة نجد ثنائية:
الكرسي= الظلام
وهنا نقرأ ثنائية ترادفٍ وتكامل في خلق بنيةٍ دلالية على مستويين/ المسميات والصور..
2 – الثنائية الأخرى..
تبرز واضحة المعالم داخل الديوان وهي ثنائية التعاكس اللفظي والنسقي بين عنوان النص وجسدهِ”
أ – العطش: من خلال هذا النص سنكتشف أنَّ الشاعر عنون النص بالعطش وبلل النص بالارتواء كمعادلٍ نصي إن صح التعبير.. يقول:
– ولي عطشٌ دائمٌ واشتهاءُ نهر.
– يعرف ضفائر دلتيه جيدًا.
– ولا يفقه مِنْ إنجيل البلل سوى سورة البجعة.
– السورة فضيلةٌ مائية..
– ترقص خاشعة بين الموج.
ب – القمة: عنوانٌ أراد مِنْ خلاله أن يعلمنا معنى السقوط وآثاره..يقول:
– قدمك ما زالت تلامس التراب
– القمة هي خط البدء في السباق
– وماذا لو سقطتَ؟ روحك لن تلامس الصحراء..
– جسدك سيكون في أسمى حالاته وهو يسقط منسحقًا بكلِّ تواضعِ عظامك مع الطبيعة.
ج – العدم: وما زالت ثنائية المغايرة تطفو على سطح هذه المجموعة هنا العدم برؤيةٍ شعرية مختلفة العدم الخلّاق يقول رائد:
– أن تُجيد الخلق.. يعني أن تجيد ابتكار العدم..
– تبعثُ طفلاً في كلِّ مخاضٍ بَيِّن.. وتتصالح مع نموه بداخلك
– في كلِّ لحظة تمددٍ.
– تنبض على تلالِ يديك
لاحظنا كيف كانت الثنائية المغايرة والمتعاكسة جاءت كشحنةٍ مكثفةٍ حاولت أنْ تشعل في المتلقي نهم التساؤل وديمومة البحث عن المغايرة..
وفي الألواح ظواهر متعددة وتقانات جميلة أتقنها رائد كما هي عادته في بقية منجزه الشعري..
وهنا فقط أضع إشاراتٍ لبعض تلك الظواهر تاركًا الباب للقارئ أن يفتح درفته بعمق ثقافته ووعيه الإبداعي..
– رائد الجشي في ألواحه حاول أن يشعرن المصطلحات الفلسفية والصوفية ” والمختلف واجب لوجود السكون “
– اتكأ على أسلوب التعريف..
“الحبُّ كفكرة تصور وبذرة تصديق”
وغيرها من الزوايا المتناثرة بين ردهات هذا العمل الجميل ويظل رائد مازال يبتكر رائدًا ويبحث عنه ويحتسيه أحيانا..
يقول بول شاوول:
“لعبة الكتابة: هي لعبة البدايات وكذلك لعبة النهايات فلنقل إنها أدوات بحث عن الهويات المتراكمة، أو المستبقة أو المتضاربة أو المتحولة، أو ليست كلُّ كتابةٍ سيرة؟
هنا السيرة، مساكن مهجورة، بمواصفات محظورة أو فائضة أو خبيئة..”
على صهوة الكلام ص9.