قراءة] لعبة الأعداد والأسماء في رواية دنيا زاد
محمد الهلال
هي رواية سيرة ذاتية لن نختلف في ذلك، أم تفقد جنينها أثناء الولادة فتقرر أن تسرد ما حدث لها، ولكن بشكل أكثر أثارة وغموض، فتختار اسمًا مركبًا تطلقهُ على بطلة الرواية والرواية، “دنيا زاد”.
لماذا هذا الاسم وما المقصود منه؟ ولماذا لم تكتفِ بالاسم الأول دنيا، فهو اسم جميل لطفلة. إنها أضافت “زاد” ليصبح الاسم دنيا زاد، ولماذا لم يكن المولود ذكرًا؟
كل تلك الأسئلة قد يطرحها على نفسه قارئ الرواية، ليفك اللغز الأول في لعبة الأعداد والأسماء.
فلنجب ـ أولًا ـ على اللغز الأول “دنيا زاد”. فلو رجعنا إلى معجم اللغة العربية؛ لنتعرف إلى معنى دنيا: اسم (مفرد) الجمع: دُنْييات، الدنيا مؤنث الأدنى، الطبقة الدنيا: الطبقة التي يكون لديها أقل دخل أو ضمان مالي، وتزاول أدنى المهن وعلى درجة أدنى من التعليم مما يؤثر في أمالها المستقبلية وتصبح في حالة من الضياع والدونية.
زاد: (فعل) زادَ / زاد على / زاد عن / زاد في/ زاد من يزيد / زد زيادة، زيد، مزيد”.
إذن هو لم يكن اسماً لطفلة فقط، بل علامة استفهام كبيرة تضعها في وجه المجتمع المصري، ونقد صريح لما تعانيه المرأة المصرية من نقص في حقوقها الخاصة والعامة. وعلى الرغم من نمو دورها والحجم الذي تشكله بالنسبة لتعداد السكان؛ فإنها لم تُعطَ حقها الذي تستحقه، وهي تذكر في مستهل الرواية كيف كانت تعامل المرأة المصرية في العصر الفرعوني، وإن لم تعبر عن ذلك بصراحة، ولكنها لمحت بذلك عبر ذكر أوصاف الطفلة المولودة كما تقول “في حرص أطل وجهها تحت غطاء من القطن الطبي. طلبت من الممرضة إضاءة الغرفة، التي ظلت معتمة، رغم كل شيء، ونظرت إلى الوجه المستدير المائل للزرقة. العينان مسدلتان والأنف صغير والفم يشبه الهرم، شديد الزرقة”.
ويتأكد المعنى بعد قليل من الصفحات ونحن نواصل القراءة بظهور اسم جديد للرواية “لم يُكتب في الأوراق اسم للبنت، لذا لم أستطع أن أنطق اسمها الذي أردته منذ سنوات “زاد الرمال” التي لم تكن عيناي قد رأتها بعد”، الرمال تعبير عن الكثرة، هنا أصبح المقصد واضحاً من الاسم المركب.
الرواية تتكون من أحد عشر فصلاً، وهو عدد فردي وسوف تشكل الأعداد الفردية والزوجية لغزًا آخر في الرواية، وهي من الروايات القصيرة جدًّا، تتكون من ستة وثمانين صفحة، كتبت بلغة سردية في غاية البراعة، وبعقلية تعرف ماذا تقول وكيف تقول، لم يكن حضور الكلمات والأسماء والأعداد حضورًا عابرًا دون قصد أو معنى، كل شيء في الرواية كان مرتبًا وكأن البناء، بناء معماري أو نشأ تحت مواصفات ومقاييس لا يمكن الإفراط والتفريط فيها. ويلاحظ كيف أن الروائية استفادت من ذكر أوصاف الشخصية الفرعونية بتحقيق أهدافها وتسليط الضوء على قضية المرأة المصرية، دون أن تفرط باستخدام كلمات يمكن أن تُسهِم في ترهل البناء الروائي، وبالتالي تؤثر في تماسك البنية السردية. هي لغة أقرب إلى اللغة الشعرية، كما وصفها الدكتور علي الراعي رحمه الله “كل هذا الشعر والقدر من التحكم في مادة الرواية، هذه المقومات تجعل من “دنيا زاد” علامة مضيئة فارقة في الرواية العربية، وفي أدب المرأة على وجه خاص.
وما يلاحَظ، أيضًا لمن يقرأ الرواية، حضور العدد ثلاثة بشكل لافت وبعد ذلك العدد أربعة، وكأن هناك حوارًا من نوع خاص بين هذين العددين، وتتناوب الأعداد الزوجية الأخرى مثل الاثنين والثمانية والعشرة، وكأنما العدد ثلاثة يرمز إلى شيء معين، مثل التعددية. والعدد أربعة والأعداد الزوجية توحي بالقمع وفرض الرأي الواحد، أو تشير إلى أهمية الأرقام والحسابات في حياة الطبقة الوسطى في المجتمع المصري.
وسوف أورد بعض مقاطع توحي بكل ما ذكرت، أو توحي بأشياء أخرى ربما تلفت نظر القارئ فيقدم قراءة أخرى تضيء الجوانب المعتمة بهذه الرواية، “ثلاث ممرضات يحطن بي” نزفت دمًا ثلاث مرات”، انتقلت من فراش إلى فراش آخر ثم إلى فراش غرفة العمليات”، كثيرًا ما كنت أشعر أننا أربعة أفراد في الأسرة فلا أجد غير ثلاثتنا”.
“وأنا أحمل حملي الثالث وأنتظر”، “أغمض عيني ثانية فترحل صورتي الطفلة وتحل محلها صورته الباسمة. هذه المرة: وقع أقدام عسكرية، وأبواب سجون تصطك، وسياط معلقة فوق الرؤوس. سريعاً، أمحو الصورة الباسمة من ذاكرة العين، وأجول بنظرة فزعة في أركان الغرفة الأربعة”.
هذه مقاطع من مقاطع كثيرة في الرواية تؤكد أو تنفي أو تضع تصورًا آخر ربما يساعد في العثور على حل لعبة الأرقام، وسوف أربط المقطع الأخير بحضور أحد الشخصيات المشار إليها ولكن لم يذكر لها اسم، بل حضر كرسم كاريكاتيري ربما يتقاطع ذلك الرسم مع ملامح وأوصاف الراحل جمال عبد الناصر رحمه الله.
وإليكم المقطع ليكون الحكم للجميع وليس لي وحدي “الصورة رجل في الخمسين، وربما في الستين. نظارة طبية مستديرة وذقن حليق. رائحة عطر تفوح من مسام وجهه القطنية الملمس. ابتسامة خفيفة. الأسنان لا تظهر، لكنها منتظمة، تفسح مكانًا صغيرًا لطرف اللسان في طفولة. الوجنتان بارزتان كنحت صياد عجوز. والعينان صغيرتان خلف زجاج النظارة، الذي يعكس ضوءًا على الوجنة اليسرى. وميل طفيف في الكتفين. يمتد الصدر تحت الصورة. ثم الخصر، ثم الساقان، وتكتمل الهيئة عند نهاية الصفحة. النعي أيضًا يحتل عمودًا كاملًا والصورة لا تتحرك. لكنها كرسم الفراعنة، تتأهب للحركة، وتثبت في الذاكرة.
“لو ربطنا هذا المقطع في المقطع الذي يأتي بعده وهو مقطع يظهر القمع بشكل لافت، لعرفنا مدى الاختلاف على هذه الشخصية الوطنية، وإلا لماذا هذا الرسم الذي يشعرك بدفء وحنان والتصاق تلك الشخصية بالتراب المصري، الاختلاف هي سمة الله بالخلق وهي من سنن الطبيعة، ولكن لماذا ذلك الحضور الجميل لزعيم سعد زغلول الذي يأتي مرتبطًا بالنيل وكأنه هناك إشارة لشخصية الوطنية التي يجمع عليها الشعب المصري، فهي تحمل صفة النيل المعطاء وواهب الخيرات دون مقابل، فمصر هي هبة النيل كما يقولون، يتبقى على الأسماء الثلاثة، شهاب الدين وأشرف الطبيب، نصر حامد أبوزيد، أما بقية الأسماء سوف اتركها لقارئ الرواية يحاول أن يفك شفرتها ويخبرنا بسرها..
لنبدأ بشهاب الدين، فالإسقاط واضح لا يحتاج إلى توضيح أكثر، فهو يعبر عن سيطرة التيار الإسلامي “التكفيري “بالقوة والمال والفكر الذي أصبح منتشراً، وأفكاره منتشرة وما القمع الذي يمارس ضد المرأة، وعلى الأفكار الأكثر تقدمية إلا نتيجة نفوذ ذلك التيار، لكن شهاب الدين ابن الأربع سنوات تجاهد أمه على تربيته ليخرج عن القطيع، ويكون لهُ رأي ويحب الحياة، يتشارك مع الآخر صاحب الأفكار المختلفة سواء كان ذلك رجلًا أم امرأة، فهي هنا تبني آمال عريضة على الجيل الجديد، ونراها كيف فرحت عندما حكى لها شهاب الدين عن حبه لطفلة معه في الروضة، ونقرأ كيف وصفت أخويها، الكبير كأبي الهول، أما الأصغر تقول عنه “وجاء أخي الأصغر يحمل وردًا وكثيرًا من الحب”.
نصر حامد أبوزيد كان حضوره عابرًا في الرواية ولكنه ذو دلالة قوية بالوقوف إلى جانبه بسبب القضية المرفوعة ضده في المحاكم المصرية للتفريق بينه وبين زوجته في منتصف التسعينيات من القرن الماضي.
الطبيب شرف يأتي ذكره متبوعًا بصفة الطفولة كما تقول “في عيادة طبيب آخر، اسمه “شرف” كأسماء الأطفال عندما كنا نحن أطفالًا”. وهي هنا تقصد المجتمع المصري قبل أن تتغلغل فيه وتنتشر أفكار التيار التكفيري، ويبدأ في التغير نحو الأسوأ، وفي مقطع آخر تذكر مواصفات أخرى للدكتور شرف فهو يتحدث الإنجليزية والألمانية والفرنسية بطلاقة، هي التعددية التي كان يعيشها المجتمع المصري أيام الملكية، وتبقّى عليه أن أوضح بعض المسائل المهمة، منها استقالة البطلة وثيمة الموت.
في تصوري لم تكن استقالة البطلة من العمل فقط، ولكن من كل نظام يقيد حريتها، وأولها مؤسسة الزواج كما تقول “رسمت في رأسي صورًا للقاء الغد.. وقررت في النهاية ألا أقول شيئًا البتة. هكذا شرعت في بناء مقبرة جديدة أضع فيها تمثالًا للرجل. وأواريه التراب” لماذا؟ هي تذكر السبب “حين رحلت “دنيا زاد” أرسل لي خطابًا وقال: تولدين من جديد وسط شلالات الألم. وكنت في ذلك الحين أبكي “دنيا زاد” كثيرًا كل يوم (ما الذي تبدل الآن؟). هو، هو الرجل لا يقبل الحوار. كل شيء يأتي بالأمر ناسيًا أن العصر، اختلف ولم يعد عصر سي سيد. ثيمة الموت تحيط بالعمل، فمن الموت تولد الحياة، وكأن الكاتبة في نصها السردي هذه تتعالق مع نصوص شعر لها بصمتها في وجدان الشعب المصري، مثل صلاح عبد الصبور، وأمل دنقل، وأورد من نصوصهما مقطعين أختم بهما القراءة النقدية .
صلاح عبد الصبور
لم يك مثلنا يستعجل الموتا
لأنه كل صباح، كان يصنع الحياة في التراب
ولم يكن كدأبنا، يلغط بالفلسفة الميتة
لأنه لا يجد الوقتَ
***
لكنه، والموت مقدور
قضى، ظهيرة النهار، والتراب في يده
والماء يجري بين أقدامه
وعندما جاء ملاك الموت يدعوه
لون بالدهشة عينا وفما
ومد للأمام ساعدًا، وجرّ في عياء قدما
واستغفر الله
ثم ارتمى.
أمل دنقل
حط المساء
وأطل من فوقي القمر
متألق البسمات، ماسيَّ النظر
– يا إخوتي هذا أبوكم ما يزال هنا
فمن ذلك الملقى على أرض المدينة؟
قالوا: غريب
ظنه الناس القمر
قتلوه، ثم بكوا عليه
ورددوا (قتل القمر)
لكنْ أبونا لا يموت
أبداً أبونا لا يموت!
——–
الهوامش
١- ويكيبيديا
٢- عوالم شعرية معاصرة، د. جابر عصفور كتاب العربي ٨٨ أبريل 2012
٣-التعالق النصي في الشعر السعودي الحديث، د. علوي الهاشمي
رواية دنيازاد -٤ مي التلمساني / روائية مصرية / الطبعة الأولى دار الآداب عام ٢٠٠٤
اقرأ للكاتب أيضاً