أبو باكُرْ.. فلّاح من جيل “الأكّارين” يمنح “أم الخير” نهاراته طبيعة العارف بمزاج الأرض.. وطبع السماء
كتب: حبيب محمود
على الطريقة القديحية القديمة؛ تكون كُنيته “أبُوْ باكُرْ”. و “باكُر” هذا هو ابنه الأكبر “باقِر”(1). واسمُه “عبدالجبّار”؛ يكاد يكون وحيداً في البلدة الريفية. أول تعاملي معه؛ بدأ قبل سنواتٍ، حين دخلتُ بستان “أمّ الخير” باحثاً عن نوع شجر محلّي مهدد بالانقراض؛ اسمه “نُوّامْ”. وقتها؛ كنتُ في جولةٍ مسحية، عبر دراجة، شملت سَيْحة القديح (2) الشمالية كلّها، بحثاً عن هذا الشجر..!
وعن يسار مدخل “أم الخير” وجدت صفاً لشجراتٍ من “النُّوّام”، ذات الورق الذي يُشبه سعفة النخلة. ومنذها؛ صرتُ أتردّدُ على البستان الواقع إلى الجنوب من موقع عين “المحارق”.
عين المحارق المعروفة شمال القديح
بتبسيطٍ عفويٍّ؛ أمنح نفسي حقاً في وصف الرجل بأنه مصدرٌ زراعي شفاهيٌّ ليس قادراً على الإخبار فحسب؛ بل وعلى الإلهام أيضاً. تلك النبرة القروية النابعة من قلب حديثه؛ تُفتّقُ فيك الأسئلة، كأنّك طفلٌ ممسكٌ بخنصر أبيه، أثناء المشي. تُلحق السؤال بالسؤال. تأتي إجابات الأب محمولة في معجمٍ ريفيٍّ مشحون بألغاز الإبدلات والدلالات، وطرائق التصريف والاشتقاق والنحت. ولا مناص من شدّ خنصر الأب مجدداً، وإلحاح الأسئلة..!
طالب الدكتوراه في اللسانيات محمد الشاخوري يسجّل صوتيات لعبدالجبار مرار سنة 2017
كادحٌ آتٍ من تقلُّبات زمن “التضمين”.. ذاكرةٌ تسردُ بمودّة، لا انفعال طبَقي، ولا شكوى موتورة. في أحد أيام الشتاء قبل سنوات؛ زرت البستان في أيام “التخليف”(3)، وحين سألتُ عنه قيل لي إنه “ودّى نگوةِ الجَدَبْ لشريكه”. أي انتقى أفضل ما في جمّار النخيل وذهب به إلى مالك “أم الخير”. وكان تعليق بعض الموجودين أنه يحبّ شريكه و “يبَدِّيهْ”. وهذا النوع من العلاقة ينسجم مع طبيعة “أبو باكر” الودودة والكريمة.
مجلسه في “أم الخير” يحضره فلّاحون ويتبادلون الأحاديث
يقضي نهاره في “أم الخير” برفقة ابن أخيه “أبو علي”. وعلى طريقة أسلافه من الفلّاحين. لا تمنعه عقوده السبعة من “ضراب مَرمَى”، أو “تنفيع حواوين”(4)، وسائر ما عليه فعله اعتياداً في بستانٍ “قام عليه” عشراتٌ من “الأكـّارين”، وتخالطت حوله شروط “الصُبرة” ونزاعات “الوَضَحْ”، قبل أن يستأجره من مُلّاكه، في زمنٍ لم يعد يُريد فيه الملّاك أكثر من أن تبقى بساتينهم حية.
ابن أخيه حسن.. كان معه في البستان.. وقد أقعده المرض
وهو من أعرف الناس بحياة النخلة، وأغزرهم حديثاً عنها، وأقدرهم على أن يُريك شجرة الكلام طريةً يانعة، مغروسةً في طبع الأرض، ومحضونة بمزاج السماء.
أطال الله في عمر الحاج عبدالجبّار، ومتّعه بعين العافية، ونفعه ونفع به.
———-
(1) في القديح؛ كانوا يُبدلون القاف كافاً، مثل بعض الفلسطينيين.. فيقولون: كرا و كهَر وكَعد: قرأ وقهر وقعد. وفي الوقت نفسه كانوا يبدلون الكاف چ، فيقولون: چبير، چنار: كبير، كنار (نبق).
(2) سيحة: مساحة تشمل مجموعة أو مجموعات من البساتين مرتبطة بنظام ريّ من منبع واحد أو ينابيع محددة، وقد جرى الاصطلاح على نسبتها إلى بلدة، سيحة القديح، سيحة البحاري، سيحة التوبي.. الخ.
(3) التخليف: إسقاط النخيل المسنّة ووضع فسائل خلفاً لكل نخلة مُسقطة. وهو تقليدٌ معمولٌ به منذ آلاف السنين، وتشير الدراسات الحديثة إلى وجوده في حضارة بلاد ما بين النهرين. كما تمّ رصده في ترجمة اللغة الأكادية المنقرضة.
(4) ضَرَاب المَرْمَىْ: تعميق قناة تصريف الماء “السيبة”. تنفيع حواوين: تجهيز العلف للحيوانات.