صيفنا الحالي “مُزوّر” لغوياً…! الصيف هو الربيع.. والربيع هو الخريف.. وفصل الحر الشديد اسمه "القيظ"

كتب: حبيب محمود

تاريخياً؛ فصل الصيف ليس الفصل الذي نعيشه الآن. وقبل قرون طويلة كان اسم “الصيف” يُطلق على فصل “الربيع” الذي نعرفه. الفصل الذي تشتدّ فيه الحرارة وتنضج الثمار؛ كان اسمه “القيظ”..!

والمثل العربي القديم القائل

الصيفَ ضيعَت اللبن؛

لم يكن يقصد إلا فصل الربيع، لا الصيف الذي نعرفه..!

وتاريخياً أيضاً؛ لم يكن لدى عرب قلب الجزيرة العربية فصلٌ اسمه “الربيع” على التحديد الذي نعرفه اليوم. الربيع العربيّ القديم هو الخريف الآن. “ومنهم من يسمي الفصل الذي تدرك فيه الثمار، وهو الخريف، الربيعَ الأَول ويسمي الفصل الذي يتلو الشتاء وتأْتي فبه الكَمْأَة والنَّوْرُ الربيعَ الثاني، وكلهم مُجْمِعون على أَنّ الخريف هو الربيع”.

كانت أسماء الفصول الأربعة مختلفة عند العرب القدماء عمّا هو لدينا الآن. وفيما يلي أسماؤها: من اليمين الاسم القديم، ومن اليسار الاسم الحالي:

  • الصيف: الربيع.
  • القيظ: الصيف.
  • الربيع: الخريف.
  • الشتاء: الشتاء.

وفصل الربيع المحدّد، راهناً، بين  مارس آذار ويونيو حزيران؛ كان يحمل اسم “الصيف”، والصيف كان يحمل “القيظ”. والفصل الوحيد الذي لم ينزحْ اسمه من موقعه هو فصل الشتاء. وقد وقعت هذه الانزياحات بعد اختلاط العرب بالفرس في العراق، “قال أَبو يحيى: وربيع أَهل العِراق موافق لربيع الفرس، وهو الذي يكون بعد الشتاء، وهو زمان الوَرْد وهو أَعدل الأَزمنة”*.

الربيع العربيُّ القديم مرتبط بالكلأ والمطر في نهاية الصيف، فيما الربيع الفارسي مرتبطٌ بالإزهار في نهاية الشتاء. ولابن منظورٌ تحقيقٌ جديرٌ بالملاحظة، حين نسب تغيير اسم فصلي “الربيع” و “الخريف” إلى من وصفهم بـ “العامة”. وهذا يُشير إلى أن الانزياح بدأ من عامة الناس، قبل أن يستقرّ على النحو الذي نعرفه الآن.

إذن؛ فإن تذمّرنا المستمرّ من انعدام وجود فصل “الربيع” لدينا له ما يُبرّره جغرافياً وتاريخياً. فحتى أسلافنا، عرب الجزيرة، لم يروا الربيع الطلق الذي رآه البحتري في العراق:

أتاك الربيعُ الطلقُ يختال ضاحكاً

من الحسن، حتى كان أن يتبسّما..!

ولا ربيع صفيّ الدين الحلّي:

فَاِصرِف هُمومَكَ بِالرَبيعِ وَفَصلِهِ

إن الربيع هو الشبابُ الثاني..!

إلا أن ذلك لا يحول دون ملاحظة تحوّلات الطبيعة في هذا الوقت من السنة. ثمة ربيعٌ حقيقيٌّ موجود بتفصيلاتِ تفتُّحه واستعداداته للإثمار. يمكن القول إن لدينا ربيعاً دافئاً. صحيحٌ إنه لا يتبسّم، مثل ربيع البحتري، إلا أنه يبقى ربيعاً.. ربيعاً جميلاً، وعلينا تنبيه مجسّات إحساسنا لنشمّ الجمال، ونلمسه، ونتذوقه.

صيف القطيف
وسُكّان القطيف، مثل عرب قلب الجزيرة، لم يكونوا يعرفون الربيع، إلا عبر الفهم العربيّ القديم، الاخضرارِ الذي يتلو جفاف الصيف، والإمراعِ الذي تسرحُ فيه البهائم. وعلى أنّهم استخدموا المثل السائر “اصبر/ انطرْ يا حمار لين يجيك الربيع”؛ فإن سير هذا المثل، في القطيف، كان استعارةً من بيئة غير بيئتهم، وإلا فإن حميرهم وسائر بهائمهم في نعمة طيلة العام..!
القطيفيون عرفوا فصلين اثنين لا غير في السنة. الشتاء والقيظ (لـِشْتَاْ ولـْگَيْضْ). وبحكم حاجتهم إلى نظامي الزراعة والبحر؛ تذاكروا الأنواء واستعانوا بالأبراج، وأدخلوا مسمّياتٍ فيما بين الأبراج لتكون علاماتٍ زمنيةً تُعينهم على تحديد مواقيت أعمال الزراعة والغوص والصيد..!
وربيع القطيف، مثل ربيع الجزيرة العربية؛ يقع بين نهاية الشتاء وبداية الصيف. ويُعرَف الجزءُ الأكبر منه بـ “المرابْعين لـِمْدِرْزَهْ” أو “لـِمْدرْزاتْ”*، في إشارة إلى موسم وضع الشتلات وظهور أوراق الشجر وتفقُّح أزهار الثمر، وتلقيح النخل، ونُضوج فاكهة الربيع، كالتوت مثلاً، وتفتُّح الورد والرياحين عامةً.
هذا عن الأرض. أما السّماءُ؛ فلها مزاجٌ جديد، إذ يبقى الليل بارداً، ويصير نصف النهار الأول ساخناً منذ طلوع الشمس. ولهذا؛ كانوا يحسبون أنهم دخلوا أول “القيظ”، ليبدأ الفلّاحون استعدادهم للانتقال من مباني “الدُّور” في القرى إلى البساتين. فيما يتسارع نشاط “نواخذة” الغوص لـ “دشة البحر”، وربّما بدأ بعضهم الغوص الأول القريب من السواحل.
في النهاية؛ هناك “ربيع” من الناحية المناخية، حتى وإن لم يكن موجوداً من الناحية اللسانية والثقافية. وأيّاً كان اسمه؛ فإن بهجته مشهودة في مزاج الأرض، وطبع السماء..!
————
* يبدو ألّا أصل عربياً للكلمة بمعنى الغرس أو ظهور أوراق الغرس أو الزهر.

اقرأ أيضاً

تموز.. قيض القيّاض.. حصاد الأرض.. فضّ بكارات اللؤلؤ

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×