تموز.. قيض القيّاض.. حصاد الأرض.. فضّ بكارات اللؤلؤ شهر الخصب والرخاء في حضارات الأرض القديمة

كتب: حبيب محمود

إنه “تموز”.. يوليو.. جولاي.. القيظ على أشدّه.. النهار الأطول في السنة.. حصاد الأرض، وفكّ أصداف اللؤلؤ، وانتظار بركة نجم “الزّهَرة”، وملتقى حلم الفلاح والبحّار.

قبل النفط؛ كان لهذا الشهر نفطه الآتي من البساتين، وأعماق “هيرات” الخليج، مخلوطاً بعرق أبناء البر والبحر، وهم يواجهون الطبيعة الجحيمية، في مناجم البحث عن لقمة العيش لهم.. والثراء للمُلّاك والنواخذة والطواشين، وأبناء الرفاه، والأمر والنهي..!

اخْوَاهَرْ تموز…!

إذا كان يونيو حزيران؛ شهر “البشائر”؛ فإن يوليو تموز؛ هو شهر العطاء الأوفر. في أواخر حزيران؛ يترقّب الناس رطب “الماجي”، ثم “البكيرات”، ثم “الغُرّهْ”، بوصفها بشارة الموسم. وحين تصل دفعاته الأولى إلى السوق؛ تضرب الأسعار سقف المعادلة، معادلة العرض والطلب..!

شهر يوليو تموز هو شهر الوفرة والمنح غير المحدود. وفي حضارة ما بين النهرين؛ ُربط رمز تموز بالنخلة وتاجها المتمثل في السعف، وحامت حوله أسطورة تخصّ تابعه الحيواني، الثور البري، المعروف بأنه رب الحياة والنمو في النخلة.

وتجلّى ـ في الأساطير البدائية ـ بكونه أحد حارسي بوابة السماء والمسؤول عن دورة الفصول. وبعيداً عن التفسيرات البشرية الأولى؛ يبقى تموز شهر الغلّات الأسخى على الإطلاق..!

وما إن تشتدّ حماوته تأكيداً للقيظ؛ حتى تنسرد الثمار انسراداً في البساتين، ويتسارع نضوجها، مالئة الأسواق والبيوت من خيرات الأرض.

هل هو أخو الحر..؟

لا تبدو كلمة “خْواهَر” ذات أصلٍ لغويٍّ يُمكن الاطمئنان إليه من زاويةٍ لسانية علمية. بُنية الكلمة الصوتية محيّرة جداً، ولا يمكن ردّها إلى أية مادة لغوية عربية، أو تأويلها صرفاً أو اشتقاقاً. الكلمة منغلقة على مبناها، مثلما هي منغلقة على معناها أيضاً.

الـ “خواهر” من صفات الحرّ الشديد في القطيف والبحرين، والخليج عموماً. إنهم يقولون “جا الخواهر”، و “طلع الخواهر”، بمعنيي: جاء الحر، وخرج الحر.

ويقولون:

  • الدنيا اخْوَاهر: الجو حارّ.
  • ليلةْ خواهر: ليلة حارّة.
  • اضْهُرْ انهار واخواهر: ظهر وحرارة.
  • گاعد في الخواهر: جالسٌ في مكانٍ حار.

نظريّاً؛ قد يبدو من السهل وضع الشكل الصوتي للكلمة ضمن تفسيرات ما يُعرف بـ “الاقتصاد اللغوي”. أي أن الكلمة مكوّنة من كلمتين اثنتين “أخو الحَر”، ثم دُمجت الكلمتان بفعل كثرة الاستعمال والاقتصاد في “الجهد الأدنى”، علاوة على إبدال “الحاء” لتصير “هاءً”، ومحصّلة لــَوْك الكلمة المتلاحق في الألسنة هي تحوّلها من “أخو الحر” إلى “خواهَر” أو “اخْواهَرْ”..!

ولكنّ هذا التفسير الصوتي يُمكن إسقاطه، بسهولة أكثر، أمام التفسير الدلالي للكلمة. فـ “خواهَرْ” تعني الحرّ الشديد، وهذا المعنى لا يُضارعه معنى “اخي الحر”. الحرُّ أشدّ من أخيه بطبيعة الحال، ووصف شيءٍ ـ أو تشبيهه ـ بما هو أقلَّ منه ينال من قيمة وجه الشبه، ومن ثم من قيمة التشبيه كلّياً.

ثمّ إن هناك ملاحظةً صوتية، هي أن إبدال “الحاء” إلى “هاء”، يبدو متعذّراً، ولا يمكن الجزم باستحالته. وسبب التعذُّر هو أن هذا الإبدال لم يكن موجوداً في الشطر الشرقي من الجزيرة العربية.

وقد ذكر المبرّد في “الكامل” أن بني سعد بن زيد مناة ولخم يبدلون الحاء هاءً، لقرب المخرج، فيقولون: مدهته، بدلاً عن مدحته. (انظر: تاريخ آداب العرب، مصطفى صادق الرافعي، ج 1، ص 122).

وعليه؛ فإن الأرجح أن كلمة “خواهر” لم تتحوّل من “أخو الحر”، إلا حين نحصل على دليل دلالي أولاً. أي حين نتأكّد أن الـ “اخواهر” المقصود ليس حرّ القيظ، بل حرّ الربيع. فهذا المعنى قد يُميل الترجيح إلى أن الحرّ المقصود هو الذي يأتي في الربيع، وليس الحر الذي يشتدّ في الصيف، وبالتالي فهو “أخو الحر”، لا الحرّ عينه..!

وحتى يظهر هذا الدليل، فإنني أميل إلى تفسيرٍ ميثولوجيّ موجود في حضاراتٍ كثيرة، هذا التفسير يربط الكلمة “خواهر”، بمفهوم فلكيّ قديم.

 

الزُّهَرَة*، عشتار، فينوس، افروديت.. شوكرا.

قد يُشير تعلُّق البحّارة بـ “نجم” الزُّهَرة إلى وجود ميثافيزيقيات أعمق مما نعرف عن علاقة الغوص بحضارات كثيرة في الهند القديمة وبلاد ما بين النهرين. ذلك أنهم كانوا يطلبون بركاتها على ما يحصلون عليه من الصدفات، ولا يتجرأون على فلقها واستخراج اللآليء منها قبل نيل هذه البركات.

تُنشر كلّ الصدفات على سطح السفينة طيلة الليل، ليمرّ عليها “نجم” الزُّهَرة، ويودع فيها اللآليء الكُبرى والأغلى والأثمن. وبما أن “الكوكب” كان يُعرف بـ “نجم” المساء و “نـجم” الصبح؛ فإن إطلالته السماوية اللامعة في سماء الصيف الصافية؛ تُرسل البركات إلى صدفات البحّارة المغامرين المسكونين بتأثيرات ما وراء الطبيعة..!

ولكوكب الزُّهَرة وجودٌ في ميثولوجيات إنسانية قديمة جداً. عُرف بـ “افروديت” عند الإغريق، و”فينوس” عند الرومان، وهو “عشتار” عند البابليين، وكلّ هذه الأسماء تُشير إلى إلهة الحب. إلا أن النظرة الأشدّ خرافة؛ تكونت في حضارة المايا التي اعتمد جزءٌ مهم من أجندتها الدينية على حركة النجم، وذهب عرّافوها إلى التنبؤ بأحداث حياتهم بما فيها الحرب.

وثمة أهمية مماثلة لدى سكان أستراليا الأصليين، حيث كان يجتمع حشد منهم بعد غروب الشمس في انتظار ظهور الزهرة، للتعبير عن اتصالهم بمن ماتوا من أحبتهم.**

لكن الهنود القدماء سمّوه “شوكرا”، وجعلوه إله الثروة والمتعة والتكاثر. وربما كان لهذه النظرة الدينية أثرٌ في إيمان بحّارة الخليج بما يمكن أن يقدمه لهم “نجم” الزُّهَرة. على أن هناك نكتةً لسانية جديرة بالبحث، هي علاقة كلمة “شوكرا” الهندية القديمة بكلمة “الزُّهَرة”.

تعليق واحد

  1. مادة صحافية رائعة مشغولة بحرفية.
    منذ مدة بحثت عن معنى الخواهر لأنها لعائلة في إحدى قرى الإحساء٠
    ووجدت الإجابة في هذه المقالة. شكراً لك حبيب محمود

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×