آباء البرّية 1] كويلو.. خطة الكتابة للوقيعة بالقاريء

محمد الماجد

باولو كويلو أو الجريمة عندما تريد أن تنتقم من تاريخها، باولو كويلو أو جثة من الآثام ممددة على مذبح الكنيسة، خطة الكتابة للوقيعة بالقارئ أنت أيها البرازيلي التائب، مناحة من السرد.

كويلو، كويلو، كويلو

حسبك، كأي برازيلي، أنك رقصت السامبا، وانتظرت واقفاً، مثل كل أبناء ريودي جانيرو، على مدرج الماراكانا تشاهد الكرة لساعات كما أتخيلك، لابد أنك كنت شغوفاً بنادي فلامنجو أو (المانجو الكبيرة) إلى حد الجنون، ومع كل هدف من أقدام مهاجميه، كانت زجاجتك تفيض وكأنها نافورة، وقلبك ينبض بأغانٍ سكرانة، وبقليل من السِّحر كنت تغادر الملعب لتعيد المشهد ذاته وأنت في طريقك إلى الحانة، ثم تعيده مرة ثالثة عندما تصل، وتظل تعيده حتى صباح اليوم التالي.

انتظرك العالم طويلاً لتصحو، ولم يكن أحدٌ ليخمن أنك ستخدع الجميع في انعطافه كبيرة وملهِمة نحو الكتابة، وأن قامتك القصيرة ستتحول إلى نصل من الحبر، وروحك إلى صحراء واسعة وممتدة من الورق، انتظرك العالم طويلاً لتصحو، وما إن رفعت تابوت الخديعة وفتحته، حتى انفجرت أوراقك بالبكاء: السامبا تبكي، والماراكانا يبكي، المانجو الكبيرة تبكي، كل البرازيل تبكي، خرج (حاج كومبوستيلا) من التابوت أولاً، ثم خرج (الخيميائي)، كنتَ قد خلقتَهما ببصيرة زرقاء صافية، ثم انحدرت شعوبٌ وقبائل منهما، انحدروا مثل طوفان، سنوات قليلة بعدها، ثم انفجر العالم كله بالبكاء!.

لأبدأ بالتعريف حتى لا يقع أحد في حرج التأويل، سأطلق على (حاج كومبوستيلا) اسم حجر التوبة، وعلى (الخيميائي) إزميل المعرفة، وعلى كليهما معاً مسمى (السيمرغ اللاتيني)، على غرار (سيمرغ) فريد الدين العطار، ولا ينبغي لأحد، من الآن فصاعداً، أن يفرق بينهما، ببساطة، لأن مولانا كويلو يقول لكم: أيها السادة الأمر أبسط مما تتصورون، فإن التوبة هي طريق المعرفة. ولكن، ماذا قبل حديث التوبة وقبل (السيمرغ اللاتيني)، لقد كان كويلو قبلهما مزيجاً من بشر الحافي والفضيل بن عياض، لوحة سورياليّة من التهتك والرقص والسرقة، والجنون أيضاً، أما الآن، وبعد كل ذلك الجهاد الحسن فهو أب من آباء البريّة.

حسناً، كنت أنوي تكريس هذا المقال للكتابة عن (حاج كومبوستيلا) و(الخيميائي) قبل أن أختم المقطع الأخير من مقدمتي هذه، والغارقة حتى أذنيها في غرام كويلو، بكلمتين ترشحان عزلةً وتصوّفاً: (آباء البرية)، فلم أجد مع هاتين الكلمتين الخارجتين للتو من بئر المطلق أيَّ مبرر لاستمراري في الغزل، فقد كان باعثي على ذلك هو ظني بأن كويلو وحده كان الحارس لتلك البئر، وأنه الإبن، أو لأقل الوريث الوحيد لآباء البرية، وأنه حامل الأختام ومنفد الوصايا لأولئك النفر من اليسوعيين الذين جاهدوا لتحصيل سلامهم الداخلي عبر الترحال، فهربوا من جحيم الجماعة إلى أحضان البرية لهدف سامي من الممكن اختصاره في جملة واحدة: تشكيل فردوسهم الأرضي، حيث بدت معتزلاتهم الروحية على حصير البرّية وكأنها مسبحة من العقيق المتناثر على نحو يحيل ليل البرّية إلى نهار دائم.

لقد قررت اذن، ودون أدنى رغبة في التراجع، تصويب وجهة هذا المقال من الحديث عن كويلو وحده إلى الحديث عن (آباء البرية)، وطالما ما زلت واقعاً تحت تأثير سحر هاتين الكلمتين، قفز إلى ذهني أكثر من اسم يمكن أن يكون صالحاً لدور الوريث لآباء البرية إلى جانب كويلو: إيلا روبنشتاين في رواية (قواعد العشق الأربعون) لـ أليف شافاك، ليز في رواية (طعام، صلاة، حب) لـ إليزابيث جيلبرت، ابن عربي في رواية (موت صغير) لــ محمد حسن علوان، وأخيراً مزيد الحنفي في رواية (مسرى الغرانيق في مدن العقيق) لــ أميمة الخميس. ولن أتردد في القول بأن وجود مزيد، طالب العلم والتاجر، في قائمة (آباء البرية) سيشكل الخاصرة الرخوة في هذه القائمة، ولكن الوقت ما زال مبكرا لكلينا، أنا والقارىء، للتشكيك في أهلية ابن اليمامة -المشهور بالطوافة بين مدن العقيق من بغداد وحتى الأندلس- للانضمام لهذه القائمة.

وأنا أقرأ رواية (حاج كومبوستيلا) توقفت طويلا أمام تمرين (السرعة)، وهو التمرين الثاني من تمارين جمعية رام الروحية التي مازال كويلو يجاهد ليقنع نفسه بصحة انضمامه لها، التمرين كان مشائيا، وما كان ينقصه فقط هو أن يُوضع اسم أرسطو على طرف ذيله المحبوك بخيوط رواقية صفراء “امش لمدة عشرين دقيقة أبطأ مرتين مما تمشي عادة. وانتبه إلى كل التفاصيل التي تحيط بك، الناس والمناظر وكل شيء …”، وهذا يتفق تماماً مع نصيحة مشائية أخرى دسّها كويلو في أحد جيوب (الخيميائي)، ووردت على لسان مرشد الراعي سانتياجو أو الشيخ ملكي صادق “لكي تصل إلى الكنز، ينبغي لكَ أن تتنبّه إلى الإشارات، لقد كتب الرب، في العالم، لكل منّا الطريق التي يجب عليه اتباعها، ومهمّتك تقتصر على قراءة ما كُتِبَ لك”، وهنا تذكرت رواية (مسرى الغرانيق) ونصيحة سراج الدين الفراتي المعتزلي لـ مزيد الحنفي “ابحث عن حدائقك السرية الخاصة، قد تكون متوارية في الظلال وبين ثنيات الصدور أو البحور، تفطن وأعمل نظرك وستتبدى لك… ابحث عن أسراب الغرانيق، وترقبها بهدوء وصبر، وحتماً ستحط فوق أصابعك”.

ومع شكّي بأن هذه الصدف الثلاث السعيدة التي أوحى بها (تمرين السرعة) لم تكن أكثر من مجرد رمية نرد، إلّا أنها أشعلت نار غروري بقرب الوصول إلى ثيمة تربط لحظات الولادة لكل هذه الروايات بحبل سري واحد فصرخت: يا إلهي، عليَّ فقط أن أدفع بسلسلة المصادفات هذه خطوة أخرى أو خطوتَين إلى الأمام لأصل، ولم أجد أفضل من الغورو سواميجي ليقوم بهذه المهمة، الرجل الذي ” تضور جوعاً، هام حافي القدمين، نام في العراء في عواصف الثلج في الهيمالايا، أصيب بالملاريا، الديزنطريا، وقال بأنها أسعد سنوات حياته تلك التي بحث فيها عمن يقوده إلى الله”، وقبل هذا الإقتباس من رواية (طعام، صلاة، حب) بسطور قليلة، كانت ليز تتلقى نصيحه في ذات الإتجاه من ناسك أمريكي مقيم يشاركها المعتزل الهندي “تذكري ما تقوله الغورو: كن عالماً في تجربتك الروحية الخاصة بك. أنت لست هنا كسائحة أو صحفية، أنت هنا كساعية، استكشفي، بالتالي”.

يُتبع غداً

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com