“جدارية شعرية”.. إصرار الخنيزي على “جواميس” الماجد
زكي اليحيى
في كل مرة يقفز الشاعر من مكانه محتفيا بشاعر آخر، أو ناقداً لنص أو تجربة، ينتابني شعور بأن فضاء الشعراء للشعراء! وليس لنا أن نقترب منه إلا بقدر ما نستطيع أن نغرف من معتقات دنناهم، لنترك لملامحنا بعدها مهمة اكتشاف سلاسة، أو مرارة، أو فجاجة ما ارتشفنا. هذا إذا كان لنا أصلا حظ في التذوق! أما إذا تركت هذه الذائقة، وكما هو سلوك رهط من المثقفين، لتقتات على النظريات – بافتراض أنها صحيحة – أكثر من أن تمارس دور التلقي للإبداع بوصفه الروح الكاشفة عن جودة خمرته، فستستحيل الذائقة من كونها مجسات فطرية قادرة على فرز الحسن والقبح على نحو (الحضور) إلى قائمة من القضايا الفكرية التي تلهث (لتحصل) على تعريفات متعلقة بالجمال بدون ملامسة تطبيقية للإبداع. ولعلنا نتمادى لنصل بعدها لـ (صياغة) هذه الأفكار بكتابة إبداعية (مستقلة عن النص) إنكارا للثنائية الوجودية بين العلة والمعلول (الابداع والنقد). وهذا – في أقصاه – أقرب لطبيب نساء وولادة له نصيب من العلم لكنه لم يشعر يوما بألم المخاض، ولم يعش أبدا يوميات التكوين. أليس هذا صميم معاناة المتصوفة من الفلاسفة؟!
غسان الخنيزي، وفي مقالته المنشورة في مجلة الفيصل عدد مارس-أبريل ٢٠٢٣ م، قام بهذه القفزة ليقتحم عوالم الشاعر محمد الماجد من خلال إصداره الجديد (أسفار بن عواض) ونص (الجواميس). غسان، وهو الشاعر المتوفر على ما يحتاجه من أدوات تشريح، هو في الأصل شاعر، ولذا لم يكن في حاجة لبطاقة عبور لفضاءات الماجد، بل أجده كان يحوم في فضاء الشعر كله، ملتقطا ما يستحق أن يقفز من أجله.
ليس الأهم أن يقفز غسان، أو يقتحم الفضاء. الأهم – وهذا ما لا يفهمه ذلك الرهط – هو جمال هذه القفزة ورشاقة هذا الاقتحام. فما كتبه غسان له من العمق، والفحص الدقيق للتجربة والجمال أيضاً، ما يستحق معه أن يكون نصا إبداعيا حقيقيا يمثل رؤيةً وموقفاً من الشعر بشكل عام، وممسكا بالمفاتيح والإشارات المكونة لنص الماجد بشكل خاص. كل ذلك دون أن يدعي أنه القابض على الحقيقة، أو أن يتوسل باسم شاعر أو مفكر غربي، كما هي عادة بعض النقاد المولعين باستعراض (ارشيفهم)، ولا يعوزه ذلك إن أراد فنحن نعلم انكشاف غسان على الثقافة الغربية بشكل واسع، فضلا عن اشتغاله بالترجمة.
استوقفتني، أو حرضتني على الكتابة الفقرة الثانية من المقالة. فبعد أن قدم غسان “الجواميس” معبراً عنها بـ “جدارية شعرية” من جهة، و”مرافعة” تتضمن موقف الشاعر من كل ما يدور من جدل حول شكل وبواعث ومعنى الشعر من جهة أخرى، تساءل غسان إن كان “موقف الشاعر هكذا؟”. وكأنه غير متأكد إن كان وقع على ما يعنيه الماجد في جواميسه (جداريته)! وهذا التردد هو قلق الشاعر الذي قال عنه الماجد: لا يدري قريب هو من جمر القصيدة أم بعيد.
وهنا لابد لي أن أعود لما قلت: إن غسان يعي تماماً ويدرك كل ما يتعلق بالعملية الإبداعية، كشاعر قبل أن يكون ناقداً. حيث بدأ بعدها في صناعة الإجابة وإن كانت على نحو التلميح لما يتمتع به من روح شاعر قلقة، فهذه الإجابة والتي هي أقرب للتفكير، بصوت عال، بدأت على شكل سؤال: “مَنْ الأجدر بالحديث عن الشعر والتنظير حوله؟”. وهنا يقترح غسان/الشاعر أن تكون القصيدة، أو الشعر نفسه وقبل الشاعر، هي أو هو الأجدر بهذا التنظير. وهنا بالطبع يقصد القصيدة المتوفرة على عناصر الحياة والنمو من قلب ولسان أودعهما الشاعر فيها بمعية إدراكه وفهمه.
غسان في هذه المقالة قدم رؤيته وموقفه من الشعر، ولكنه فقط وظّف “الجواميس” واحتفى بها مصراً على تكرار كونها “جدارية شعرية” موظفاً جماليات هذا النص المطول لبناء مرافعته أو مرافعة الماجد. ولعلي لن أكون مخطئاً إذا ما قلت بأنها مرافعة لغسان قبل أن تكون للماجد، فقد كان غسان (متئداً) تماما كما طلب الماجد من أمرؤ القيس ليتمكن من حشد الأفكار والقرائن والاستشهادات متجها لتقديم رؤيته الشعرية ومستفيدا كذلك مما في النص. في حين أن الماجد نفسه لم يتئد، بل أطل من البداية وفي صحبته الزير: قبيلا قبيلا، دروعا من الأبجدية نهوي، ندافع عن سور هذه القصيدة. لم تكن رؤية غسان بهذا الوضوح حينما قرأ بعضا منها بصيغة السؤال وهو يحاور الماجد في أمسية ديسمبر الفائت، ولكن – وحسنا فعل – أن نشرها كمقالة لتكشف عن كل هذا الجمال والعمق. مع ملاحظة أن الجزء الفاقع من (مرافعة) الماجد لم يذكر في المقالة وأظن أن ذلك بسبب وقوعه في الجزء الأخير من القصيدة.
أيبدو بأني خرجت عن الوزن؟
أغوى نياقي هذا الجمل
فكيف أعود؟
ومازال يرغو ويزبد
حتى
تثلم شدقاه
كيف أطبب جرح القصيدة
سمعتها
كلما مَّر رهط وقال: كسرت هنا أو زحفت هنالك
ليس مهما
فذلك شأن الخليل
يعالج مرضاه
من قلق الوزن
مرضى
ملاحدة طيبون
وهذي القصيدة
مثل الرسولة فيهم
فدعهم يلوكون إيمانها
يكسرون مواعينهم فوق أعتابها
يطفؤون ابتساماتها برؤوس السجائر
دعهم
وصل لهم
إنهم تائهون
ملاحدة طيبون
ودرب القصيدة .. هذي الرسولة درب زلق
وبنفس الرشاقة يدس غسان – مستدركا قبل هذه النتيجة – ما يُتهم به الشاعر من أهواءٍ، أسماها بـ (خلائق هوائية)، وهو يعي أنها القواعد النيتروجينية الأهم في العملية الإبداعية. هنا تذكرت الجواهري طبعا حيث يشير ساخرا إلى هذه الاهواء وانفلاتها: قال: لله أنتم الشعراء عدد الرمل عندكم أهواءُ. وذلك ضمن (مرافعة) أيضا، قدم فيها رؤية شعرية بنموذج كاريكاتوري: ونجيٍّ مثلي غبيٍّ، وحمل المرء همَّ المغفلين غباءُ. لينتهي بمقاربة موقف الشاعر من الحياة:
قلت مهلاً يا صاحبي، ظلمات الليل في عين حالم أضواءُ
أرأيت الكواز أنفس ما يملك ذخرا طين خبيث وماءُ
صانعا منه ألف شكلٍ جراراً، قائلاً في نعوتها ما يشاءُ
وكذا كل خالق يترضى ما تبنى وهكذا الشعراءُ
خلائق غسان الهوائية، وأهواء الجواهري وإغواءات (جَمَل) الماجد، ضَمَّنَها محمود درويش أيضا في قصيدته “قل ما تشاء”. حيث قدم رؤيته هو الآخر، وبنفس الحس الكوميدي الساخر، ملامسا القضية الشكلية في بناء الكلام/الكتابة على شكل خطوات، وكأنه في معمل كيمياء، مبتدئا من مجاورة الحرف بالحرف، ومروراً بالمجاز في أقصاه، حتى يصل إلى الإيقاع، متجاوزاً شكله إلى ما يثيره التحام الواقعي مع الخيالي ومع ذلك كله لم يقع فيها على السر:
سَيُولَدُ الإيقاعُ
عند تَشَابُكِ الصُّوَرِ الغريبةِ من لقاء
الواقعيِّ مع الخياليِّ المُشَاكسِ/
هل كَتَبْتَ قصيدةً؟ كلا!
يستمر بعدها متعمقا في الخطوات، وعمليات الترميم، وكل ذلك ليصل في النهاية للسحر الذي لم تستطع فيه الكيمياء تفسير هذا (الخلق الجديد).
فالقصيدة،
زوجةُ الغد وابنةُ الماضي، تخيِّم في
مكانٍ غامضٍ بين الكتابة والكلامِ/
فهل كَتَبْت قصيدةً؟
————
تنويه:
نُشر مقال الأستاذ الخنيزي الأصل في مجلة “الفيصل” عبر الوصلة التالية:
https://www.alfaisalmag.com/?author=877
ولتعذر نشر المقال التعقيب في المجلة؛ فقد حصلت “صُبرة” على إذن إدارة التحرير في المجلة لنشر هذا المقال.