شاميات.. بعض ما يُحكى.. ويُهمَل..!

حبيب محمود

وأولُ زورةٍ لها؛ كانت في شتاء 1980، برفقة أمي وشقيقي الأكبر عبدالله. كانت شوارع بلدة “قبر الست” موحلة بالطين والثلج. سافرنا إليها انطلاقاً من كربلاء العراق في حافلة كثيفة الزركشة. عبرت بنا الحافلة الغرب العراقي، ومرّت من منفذ “الرُّطبة”، ودخلنا الأراضي السورية من منفذ “أبو الشامات”.

في الليل؛ كنت نائماً في الممرّ الواقع بين صفّي كراسي الحافلة. ثم انتفضتُ على صراخ الزُّوار واستغاثتهم. انفجر الإطار الخلفي، وراحت المركبة تضطرب يميناً ويساراً، والناس يتصارخون هلعاً. لكن السائق سيطر على الوضع حتى توقف بنا إلى جانب الطريق..!

وقتها لم يكن في بلدة “السيدة زينب” فنادق. كان نظام “الخانات” سائداً. جزءٌ كبير من السكّان ـ وغالبيتهم سوريون فلسطينيون ـ يؤجّرون الزُّوار غرف منازلهم. وهكذا توزّعت الحملة على بيوت متقاربة. استأجرنا غرفةً واحدة في منزل أسرة قريب من الحرم الزّينبي.

لم يعلُق الكثير في الذاكرة من الأيام الثلاثة التي أقمنا فيها في بلدة “قبر الست”. إلا أنني أتذكّر أن الشيعة لم يعودوا يذهبون إلى الشام عبر الرُّطبة. بل لم يعد شيعة الخليج يزورون العراق. نشبت الحرب بين العراق وإيران لاحقاً، وانهارت مرحلة “الحملدار” في سفر العراق خصوصاً، والسياحة الدينية عموماً.

في سنوات الحرب؛ لم يجد الشيعة من مزارات خارج بلادهم يذهبون إليها، عدا “السيدة زينب” في ريف دمشق. انهارت العلاقات السعودية الإيرانية أيضاً.

ظهرت صناعة سياحية جديدة، وتأسست مكاتب سفر. والطريق الجديد هو طريق الشرقية ـ الشمال السعودي، ثم منفذ الحديثة، ثم الأراضي الأردنية، ثم دخول سوريا عبر منفذ “درعا”…!

طريقٌ طويلٌ جداً، ومُرهق للعائلات التي بالكاد تجد تذاكر سفر تكفيها لركوب حافلة مكيّفة في رحلة قد تستغرق 36 ساعة.

وتنشط رحلات السياحة في الإجازة الصيفية، حيث تتحول بلدة “السيدة زينب” إلى منتجع خليجي شيعيّ كبير.

(2)

لا أعرف المغفّل الذي مرّر خرافة “بيت العظم” على السُّذّج من الزُّوّار الشيعة. كان يُقال لنا إن القصر ـ بما فيه ومن فيه ـ خسفٌ يعود إلى أيام يزيد بن معاوية. حين وصلت سبايا الحسين إلى دمشق؛ احتفل الناس فرحين مبتهجين، فخسف الله بهم فصاروا دُمى على حالهم..!

لم يعد للخرافة وجود، إلا أننا كنّا نزور القصر مسكونين بهذه الفكرة. خاصةً أننا نزور المسجد الأمويّ أيضاً، وكنا نسمّيه “مِجلسْ يزيد”، ونستحضر القصة التاريخية التي جرّت على السيدة زينب مخاطبة يزيد.

وعلى ناحية من المسجد/ المجلس مقامٌ لرأس الحسين، يشمّه الناس ويقبّلونه.

ويزورون مقام السيدة رقية بنت الحسين، وقبور بعض الصحابة في الشام، بلال بن رباح، حجر بن عدي، وآخرين لا أذكرهم الآن.

عام 1980 كانت الليرة السورية تضارع الريال السعودي، أو أكثر قليلاً. وبعد سنوات سبع؛ كان الريال يعادل 8 ليرات.

(3)

زرت سوريا للمرة الثانية في 1987م، وفي الساعة الأولى من وصولنا واجهتُ أولى الصدمات. اتفقتُ و “عتّالاً” على نقل الأمتعة من موقف الحافلات إلى مقرّ السكن مقابل “خمسين ورأَهْ”. حين وصلنا نكث نكثاً فاضحاً؛ وطلب 50 ريالاً سعودياً..!

ذكّرني ذلك بموقف وقعنا فيه قبل 9 سنواتٍ، نهارَ وصولنا إلى كربلاء العراق. اتفقتْ أمي و “حمَالي” على نقل الأمتعة بـ “عرَبَانَهْ” مقابل دينار عراقي (12 ريالاً سعودياً وقتها). وحين وصلنا؛ تنمّر مطالباً بـ 7 دنانير..!

رحم الله أمّي. كانت رجلاً، ودخلت مع “الحمّالي” في جدالٍ طويل. وساعدتها صديقتها “الخانچيّهْ أم قاسم” حتى توصلا إلى حلّ. لا أتذكّر نهاية القصة، لكن أمي لم تدفع الدنانير السبعة.. لم تستسلم..!

وحين عشتٌ موقفاً مشابهاً في السيدة زينب بعد سنواتٍ؛ كانت أمي معي، ومعنا حسين ابن أخي، وشوق ابنة أختي. سافرنا معاً. حاولتْ التدخل بيني وبين “العتّال”، إلا أن نرجسية ابن الـ 19 استحوذت على الجدال مع الرجل. لا يمكن أن تتفق على 50 ليرة ثم تدفع 400..!

في النهاية؛ توصلنا إلى 20 ريالاً فحسب..!

استأتُ جداً من فكرة أن لدى كلّ سعودي بئر بترول. العتّال يراك كذلك، وموظف الجمارك والجوازات، وبائع المشمش، وبائعو سوق الحميدية و سائق “الشُّوْفَيْر”، و “……” ساحة “المرجَه”، وكلّ من يشاهد سحنتك..!

كنتُ أكرر “تبسّمْ أنت في الشامِ”، وكدتُ أكتبها قصيدة، محاولاً الاستمتاع بفاكهة الصيف، ورائحة البقدونس في سلطة المشويات، وتواطؤ الأصدقاء على ما لا يُقال.

في تلك السنة اشتريتُ عوداً، وكتب نوتات لفريد الأطرش والقصبجي ومحمد عبده وعبدالمجيد.. وقرأتُ كتباً كثيرة من مطبوعات المعارضة. والتقيتُ بأصدقاء سعوديين اختفوا ملتحقين بالتيار.. تجادلنا كثيراً، لكننا لم نتخاصم، ولم نتشاتم..!

سفرتي تلك؛ كانت خليطاً عجيباً..!

 (4)

المهمّ؛ هو أن بلدة “السيدة زينب” شغلت مساحةً حميميةً من ذاكرة الشيعة بين عامي 1981 و 2011. شيعة الخليج وإيران ولبنان، فضلاً عن شيعة العراق المهجّرين في عهد النظام العراقي السابق، ومعهم المعارضون السعوديون والبحرينيون أيضاً.

لم يكن السفر إلى سوريا يكلّف أكثر من 150 ريالاً في الحافلات المكيفة، وحين تحتدّ منافسة مكاتب السفريات ينخفض ثمن التذكرة إلى 200 ريال ذهاباً وإياباً.

وبإمكان 10 آلاف ريال أن تتكفّل باحتياجات أسرة قوامها 6 أشخاص، بما في ذلك رحلات الترفيه إلى الزّبداني والغوطة وجبل قاسيون وسائر معالم دمشق. وبأقل من ربع هذا المبلغ يمكن السياحة في ساحل اللاذقية، والسفر إلى الشمال، إلى حلب الشهباء..!

سياحة اقتصادية بامتياز، مكّنت حتى الأسر محدودة الدخل من أن تحصل على أيامٍ طيبة بتكلفة مريحة. وعلى الرغم من خشونة الإنسان السُّوريّ؛ فإن تدبّر الأمر معه لا يتطلَّب الكثير، إذ لا قيود على تنقّل العرب بين المدن والمحافظات. وإن صادفتَ ضابطاً خفيفَ ظلٍّ؛ فإن بإمكان 50 ريالاً أن تحلّ مشكلتك.. بهدوء..!

كنتُ أحبّ حمّام نور الدين في دمشق القديمة. أستمتع جداً بالبخار، وخليط الحارّ والبارد، والمساج، والليفة السوداء، ثم التنعُّم بمناشف الحمام النظيفة، والشراب اللذيذ الذي تحتسيه قبل ارتداء ملابسك..!

وذات مغرب؛ خرجتُ وصديقٌ من الحمام عائدين إلى “السيدة”، حيث أُقيم برفقة أمي. وفيما كنّا ننتظر سيارة أجرة؛ مرّ بنا مجموعة شبّان في زي شرطة.

بادرنا أحدهم بالسؤال: معكم هويّة..؟

كان صديقي يحمل صورة لبطاقة الأحوال المدنية. أما أنا فلا شيء عندي..!

طلبوا إلينا مرافقتهم، ثم ساروا بنا حتى دخلوا بنا في منطقة زقاق غريبة. وبدأ أحدهم يشرح ما سوف يحدث: سين وجيم، وراح تباتوا بَلا فرشِهْ ولا لحاف.. وعلى بُكرَهْ لازم تِسْبِتُوْ إنّ معكمْ جوازات..!

اختصرتُ الكلام، وسألتُه عن طريقة لتحاشي الصداع، فراح يلمّح بشرح وضع الشباب.. زملائه. أخرجتُ محفظتي وقلت: فيها 700 ليرة، خذوا ما فيها، ودعوا لنا أجرة “التاكسي” فحسب..!

بعد لحظات؛ أوقفوا لنا سيارة أجرة، وطلبوا إلى السائق إيصال “الشباب” إلى “الستّ”، ومع الطلب ابتسامة لا يمكن أن تحصل عليها إلا من شرطي فرنسي في شارع الشانزلزيه..!

هكذا تسير الأمور في الشام بالذات.

(5)

قرأتُ “قصتي مع الشعر” متأخّراً جداً عن زياراتي إلى الشام. في الكتاب الصغير وضع نزار قبّاني اختزالات مكثّفة لدمشق بالذات. وفي سطوره؛ كنتُ أشمّ الشام شمّاً بروائح التوابل وشجر البيوت والحارات المؤثّثة بالفرح. لا يمكنك إلا أن تحبّ دمشقَ؛ حتى وإن تضجّرت من باعة سوق الحميدية، أو قرفتَ من تجّار الحشيش الذين يعرضون عليك بضاعتهم في ساحة “المرجَهْ”، أو تظاهرتَ بالعفة من اللّواتي يلوحْن لك من شرفات الفنادق الرخيصة..!

مع “قصتي مع الشعر” كنت أمشي، في حارات العاصمة، كما كنتُ وأصدقاء الرحلات. ثم قرأت “الضوء واللعبة” الذي استنتطق فيه شاكر النابلسي نزاراً من مجموع ما أنتج، شعراً ونثراً. ومرةً أخرى؛ شعرتُ بألآّ يمكن إلا أن أحبّ دمشق، وأتشهّى ريفها، ورائحة عادم الديزل في شوارعها، وسياراتها المتحفية، بالدرجة نفسها التي أحبّ محلات العصير المصطفّة بفواكه الموز والبرتقال والجزر..!

دمشق؛ لا يُمكن إلا أن تُحَبّ، وتُعشق، وتبقى في الذاكرة طريةً مثل سلال التين، في نهارات صيفها، أو نسائم الزّبداني وخُضرة الغوطة، وبرودة بحيرة برَدى.

لا يمكنك أن تدخل بيتاً شاميّاً من دون أن تُبهجك حديقة صغيرة، ولو بدلو قديم نبتت فيه شُجيرة.

في القلب الكثير من شجر الكلام عن دمشق، وريفها، ومخيّماتها، وحارات المشي الطويل، والصيف المبلل بأنسامها..!

في القلب كثيرٌ..

(6)

غيّر الزُّوّار الشيعة كلّ شيءٍ في بلدة السيدة زينب بين عامي 1981 و 1990م. حوّلوها من بلدة تُسمّى رسمياً “قبر الست” إلى أهمّ مدينة في ضاحية دمشق الجنوبية.  البيوت التي كانت تُؤَجَّر غرفةً غرفةً؛ صارت عمارات تُؤجَّر شققاً مفروشة، مزوَّدة بمولدات كهرباء تحسّباً لانقطاعها المتكرّر..!

عدا الفنادق، ومشاريع الاستثمار، ومحلاّت الخدمات، ومكاتب السفريات، وكلّها تتناسل عاماً بعد عام، بلا توقّف.

في كلّ موسم تتدفق الريالات والدّنانير على المدينة الناشئة، من جيوب مئات الآلاف القادمين من الخليج. ومن بين الزّوار مستثمرون، وباحثون عن أملاك وعقارات، وتُجّار عملة، ووسطاء، وباعة صغار يستوردون البضاعة السورية الرخيصة، من الأحذية، إلى المنسوجات، إلى التوابل والأواني.

نقطة الارتكاز هي “السيدة”، لكنّ حركة السياحة والتسوُّق والتجارة والاستثمار تذرع الخريطة السورية لتشمل محاصيل البساتين والمعامل والمصانع.

كلُّ ذلك حدث في “السيدة زينب”، من دون أيّ احتكاكٍ طائفي يُذكَر في بلدة كلّ سكّانها من السنة. يُنادَى في أذان الفجر “الصلاة خيرٌ من النّوم”، ولا أحد من الشيعة يشعر بشيءٍ ذي بال في أهمّ معلم شيعي في الجمهورية السورية. ولم يستشعر السكّان السنة من أيّ خطرٍ له صلة بنشر المذهب الشيعيّ.

الشيعة يأتون إلى المدينة شيعة ويعودون إلى بلادهم شيعة. والسنة باقون سنة. لم يؤثّر أحدٌ في أحد، ولا قصص ولا حكايات عن تحوّل مذهبي يستحق الرواية.

(7)

بل العكس تماماً؛ فقد نبَتَ، بين ضفّتي السكان السنة والزّوار الشيعة، ما هو أهمّ من المذهبية الضيّقة. تعارف الطرفان وتشاركوا واحترم بعضهم بعضاً، على أساس المعاملة. بالطبع؛ نشأت مشاكل، كما في كلّ مجتمع. إلا أن الرُّوح السائدة المرحّبة؛ غلبت على طبيعة العلاقات بين السكان والسيّاح/ الزُّوار..!

وكانت أمّي لا تغيب عن زيارة السيدة. قبل كلّ صيف تجمع لها فريقاً من “العجايز” وتسافر معهنّ طيلة الموسم في “عِزْبةْ نسوان”.

هناك مئات من الأمّهات يفعلن مثلها. وكنّا لا نخاف عليها حتى وإن سافرت وحدها. نعرف أين تسكن عيناً. صنعت لها علاقةً مع أسرة فلسطينية، وقبل سفرها تتصل بهم ليرتّبوا سكنها، كالمعتاد.

سكنّا عندهم عام 1987؛ ولم تغيّرهم حتى تفاقم مرضها وتوقفت عن السفر.

وهناك نُسخٌ كثيرة من هذا النوع من العلاقات، يمكن الانتباه إليها في سياق الواقع الاجتماعي في بلدة “السيدة”، وسط الموجات البشرية المتدفقة عليها كلّ عام، للسياحة “الدينية” إذا صح الوصف.

وبالمحصّلة؛ فإن عقد الثمانينيات فعل الكثير للبلدة التي كانت صغيرة. وفعل الكثير لشيعة الخليج، تواصلاً مع عتبة السيدة زينب بنت عليٍّ التي لا أحد يمكنه الجزم بأن القبر الموجود جنوبيّ دمشق؛ هو قبرها فعلاً.

حسب تتّبعي المتواضع؛ فإن الشكوك تحوم حول الحرم، لدى الشيعة أنفسهم. وهي شكوكٌ تتفوَّق على الترجيح الشعبي القائم. وهذا بحثٌ طويلٌ، طويلٌ جداً، ليس هذا مكانه.

(8)

الوضع الأمني للشباب “المهاجرين”؛ فرض عليهم ألاّ يتعارفوا بسيماهم الأصل. مُنحوا أسماء حركية. ومن قرأ كتاب صديقنا عادل اللباد، فرّج الله عنه، عرف أن اسمه الحركي كان “عارف”. وهكذا وجدتُ أصدقائي في “السيدة” عام 1987؛ حين سألتُ عن بعضهم.

ومن ضمنهم قريبٌ لي، اسمه “محمد”. التقيتُه في الشارع، واتفقنا أن أزوره في سكن “الحوزة”.. وقال لي “لا تسأل عني باسمي.. اسأل عن أبو عباس”.

في الليل؛ ذهبتُ إليه، وطرقت باب السكن. فتح لي أحد الطلبة، فقلت له: أريد مقابلة فلان..!

هنا؛ راح الشاب يحملقُ فيّ باستغراب. “لا يوجد لدينا أحدٌ بهذا الاسم”، قال لي.

عندها؛ انتبهتُ إلى خطلي الشديد في كشف اسم قريبي. فحتى طلاّب الحوزة؛ لم يكن يعرف بعضهم بعضاً بأسمائهم الحقيقية. ولا يُسمح حتى لأبناء البلدة الواحدة أن يستخدموا أسماءهم، حتى المعروفين فيما بينهم.

وفي موقفي ذاك؛ رحتُ أتعمّق في الخطل، وقلت مستدركاً “أبو عباس”..!

بعد قليل؛ جاء قريبي، واستقبلنا، وحكى القصة: دخل عليّ زميلي وقال: هناك شابان يريدان “فلاناً”..!

مضت 34 سنة هجرية، و33 ميلادية..!

—————–

* مجموعة منشورات في “فيس بوك”، سنة 2016.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×