حمام أبو لوزة في القطيف.. حين ينهض الحظ الحلقة الرابعة
عدنان السيد محمد العوامي
وحظوظ الناس شتّى؛ منهمُ
من إذا استيقظ للعَليا رَقَدْ
ومن الناس الذي أنهضه
حظه عوناً إذا الجسم قَعَدْ
ابن شيخان السالمي العماني
وقد يُنهِضَ الحظُّ الفتى وهْو عاجزٌ
لحاجاتِهِ حتى يقالَ نجيبُ
مهيار الديلمي
في الحلقات الثلاث الماضية ناقشت أخطاءً وقع فيها جُلَّةٌ من الكاتبات والكتاب في صحفٍ ومواقعَ إلكترونية مرموقة، فيجمل أن نلقي عليها نظرة على ما يستوجب الملاحظة منها:
أولا: (روح القطيف على Face book). بتاريخ 19 يناير 2013م. لم يذكر اسم كاتبة أو كاتب المقال، وهذا -عادة – يعني رئيسة أو رئيس التحرير.
«حمام أبو لوزة … حفره الكنعانيون وبناه العثمانيون… ».
هذه المقولة مأخوذة عن رائد التاريخ القطيفي الأستاذ محمد سعيد المسلم (رحمه الله)، أو عمن أخذ عنه، وإن لم تُشِرْ الكاتبة أو الكاتب إلى المصدر، لا ريب في ذلك، فهو أول من نقل هذا الوهم -عن حفر العيون، من التداول الشفوي – إلى سجل التاريخ المدوَّن، ففي كتابه الأول (ساحل الذهب الأسود) كتب تحت عنوان: (3 -نظام الري) ما نصه: «مصدر الري في واحة القطيف عيونٌ جارية تسقي سيحًا، وهي قديمة جدًّا يرجع تاريخ حفرها – على ما يظنُّ – إلى الألف الثالث قبل الميلاد، ويذهب الجيولوجيون إلى أنَّ هذه الينابيعَ مصدرُها المياهُ الجوفية المنحدرة من أعالي نجد، ويُنسب عمُلها – كما هو الشائع – إلى العمالقة أبناء الكنعانيين، الذين نزحوا من أواسط شبه الجزيرة العربية، وهي رائعة من روائع الفن والهندسة، بالإضافة إلى كونها أثرًا من الآثار التاريخية الخالدة<([1])، وليته اكتفى بنقل ما “هو شائع”، لكان برئ من مظنة الاعتقاد بصواب هذا الوهم وتبنيه.
أما في كتابه (واحة على ضفاف الخليج – القطيف) فيبدو أشدَّ انبهارًا بذلك الشائع، فتحت عنوان: (مصادر المياه ونظام الري والصرف) كتب ما نصه: «العيون الجارية التي تسقي سيحًا، كانت هي مصدر الري الوحيد التي قامت عليه زراعة الواحة، وهي قديمة جدًّا قِدَم الواحةِ نفسِها، وهي من الآثار الفريدة التي تدلُّ – في هندستها، وبراعة حفرها – على قيام حضارة متقدمة في هذه المنطقة، نشأت قبل آلاف السنين، وسواء كان العمالقة أحفاد الكنعانيين الذين حفروها – كما هو الشائع على ألسنة السكان – أو غيرهم؛ فإن توفر آلات الحفر في قَطْع الصخور، وتحكمهم في تسرُّب المياه الجوفية العليا – التي من شأنها أن تُعيقَ أعمالهم أثناء الحفر – يدلُّ على أنهم يملكون تقنية رائعة، كما أنَّ لديهم خبرةً فائقةً بمواطن المياه؛ بدليل تقارب بعض العيون من بعضها؛ إذ يصادف أن تتركز عيون كثيرة في بقعة لا تتعدى مساحتها كيلو متر مربع؛ كحمام أبو لوزة، وعين الحبَّاكة، وعين البِشْرِي، وعين القَصَّارِي، وعين الجنيز (الچنيز)، وعين الحليلة، وعين الروَّاسِيَّة، في حين لا توجد عين بمنطقة بأكملها؛ كسيحة الشويكة، أو تكون متباعدة كثيرًا، كل ذلك يدلُّ على أن لهم خبرةً جيولوجيةً متقدمة، وأنهم قطعوا شوطًا بعيدًا في مضمار الحضارة لم تبلغ شأوها كثيرٌ من الأمم في عصر ما قبل التاريخ»([2]) .
قبل أن أدلي برأيي في ما ذكره الأستاذ، أنبه إلى أن اختلافي مع الأستاذ في نظرية حفر العيون هذه لا تعني نكران ما للفينيقيين من حضارة وعلم، فهذا أمر لا ريب عندي فيه، كما لا ريب عندي في أن نظرية (حفر العيون) مجرد وهم فولكلوري يدحضه العلم، كما سنرى، وقد سبق أن تناولته في مقال نشر – أولا – في مجلة الواحة تحت عنوان: (عيون الأحساء والقطيف والبحرين – هل هي من عمل العمالقة؟)([3])، ثم أفردت له فصلاً خاصًّا في كتاب عنوانه: (عيون القطيف – الفردوس الموؤود) تحت عنوان: (نشأة العيون بين الوهم والعلم)([4]) من المناسب أن أقتطف منه ما يلائم المقام:
أولا: المعروف أن الهِجْرات البشرية من أواسط شبه الجزيرة إلى أطرافها أو خارجها كانت بسبب التنازع على المياه والمراعي بتأثير ازدياد الجفاف الناجم عن شِحِّ الأمطار؛ إذ لا يوجد على سطح شبه الجزيرة العربية أنهار ولا جبال ذات بحيرات، فكيف تسنَّى للعمالقة وأبنائهم الكنعانيين أن يعيشوا بدون مياه يرتفقون منها أثناء حفرهم تلك العيون؟ ثم ما الذي أغراهم باختيار هذه الأرض موطنًا لهم عند هجرتهم من وسط شبه جزيرة العرب، إذا لم تكن في المنطقة عيون، أو أنهار؟
ثانيًا – نقل عن الجيولوجييِّن: «إن هذه الينابيعَ مصدرها المياه الجوفية المنحدرة من أعالي نجد»، لكنه أخذ بالوهم الشائع، فمن حقنا أن نسأل: أين كانت تلك المياه تذهب قبل أن تحفر العيون؟
ثالثًا، إنَّ تقارب تلك العيون بعضها من بعض في أماكن دون أخرى، التي استدل بها الأستاذ على بصر أولئك القوم بهندسة المياه، ومعرفة مواطنها، يتعين أن يكون دليلاً قويًّا لنقض هذه النظرية من أساسها؛ إذ ما هي الحاجة لتجشُّم المشقة لأجل حفر عيون لا تبعد عن بعضها إلا بمقدار أمتار، ولاسيما إذا أخذنا في الاعتبار غزارة تلك العيون، ووفرة مياهها، وقوة فورانها، ففي سيحتي القديح والتوبي – مثلا – عيون كثيرة في نطاق صغير جدًا؛ ففي المحيط الملاصق لبلدة القديح في وضعها القديم، وقبل أن تتوسع فتصبح مدينة كبيرة كان بها 12 عينًا لا تتجاوز المسافة بينها مقدار 50 مترًا هي: عين ساداس ، وعين دالية مهنا, وعين الشرابية، وعين القديح، وعين الحساوية، وعين الحليلة، وعين أم الهلالي، وعين العمارة، وعين الجميمة، وعيبن الشيباني، وعين غرا، وهكذا الحال في النطاق الذي يضم عيون سيحة التوبي، نجد: عيني المربعة التي خارج نخل المربعة، والتي داخله، والمنيشْلات، فهذه العيون الثلاث لا تزيد المسافة الفاصلة بينها عن 50 مترًا على أكثر تقدير، وعين الخاصرة لا تزيد المسافة بينها وبين عين المربعة الخارجية عن 200 متر، وعين القصير، وهي الأبعد ربما بلغت المسافة بينها وبين المربعة 250 مترًا، وبينها وبين عين العُوَينة داخل نخل الخاصرة 100م، بل إن بعض العيون ملتصق جدار إحداها بجدار الأخرى؛ كعيني الفَوَّارات في أقصى الطرف الغربي من سيحة التوبي، فهاتان العينان يلتصق الجدار الذي يفصل بينهما، مكوِّنًا ممرَّا ضيِّقًا عرضه قرابة المتر لا أكثر.
إذن؛ فالمنطق العقلي يقضي بعدم حفر العيون بقرب بعضها البعض؛ لكيلا تتحوَّل الأرض إلى بحيرات ومستنقعات بدل الانتفاع بها للزراعة والسكنى.
مسرد بعيون المنطقة
اسم البلدة | عدد العيون |
واحة شعاب | 1 |
صفوى | 11 |
أم الساهك | 11 |
حزم أم الساهك | 13 |
الخترشية | لم أتمكن من معرفة عددها |
حزم الدريدي | 8 |
السعلول | لم أتمكن من معرفة عددها |
أبو معن | 3 |
العوامية | 39 |
القديح | 37 |
الآجام | 34 |
البحاري | 7 |
التوبي | 12 |
تاروت | 3 |
الدبيبية | 1 |
مبَّاس | 1 |
الخويلدية | 5 |
البدراني | 1 |
الفاقعة | 2 |
حلة محيش | 7 |
الجارودية | 16 |
الزويكية (الزويـﭽـية) | 1 |
القوع (الـﮕـوع) | 1 |
أم الحمام | 11 |
عنك | 2 |
الملاحة | 8 |
الجش | 11 |
سيهات | 9 |
الدمام | 1 |
الخبر | 1 |
الظهران | عيون السيح غير محددة العدد. |
عيون الحنَّاة (الحناءة) جنوبي ثاج، كانت ناضبة عند مروري بها شوال 1366هـ، أوغسطس 1947م.
رابعًا: لا شك في أن الأستاذ (رحمه الله) يعلم أن في أعماق الخليج، وبقرب السواحل ينابيع ماء عذبة، متدفقة في قاع البحر شبيهة بتلك المنساحة على سطح الأرض، يعرفها الغواصون، ويرتفقون منها، بل إن بعض قرى جزيرة البحرين عاشت لعصور مديدة – قبل استخدام مكينة الحفر – ترتفق من الينابيع البحرية القريبة منها، وهي كثيرة، وبعضها معروف باسمه، مثل ينبوع أبو المهور، بالقرب من جزيرة المحرق، والكوكب (الـﭽـوچب)، بالقرب من الفشت([5])، فكيف حفرت تلك الينابيع؟ وما هي الجدوى من حفرها في قاع البحر المالح؟
حقيقة العيون، ما هي؟
إنَّ خلاصة الرأي السائد لدى الجيولوجيين هي أنَّ مياه واحتي القطيف والأحساء وجزيرة البحرين، وما حولها من ينابيعَ في الخليج العربي، تأتي من حوض (Basin) نجد، متخللة الصحراء عَبْرَ شروخ وشقوق تشكل عروقًا مائية تحت سطح الأرض([6])، وأقرب ما يمكن الاطمئنان إليه – من وجهة النظر العلمية – هي النظرية القائلة بأن هذه العيون هي عيون كارستية (Karst spring)، ويعرِّفون الكارست بأنه تجاويفُ نهرية، وكهوف، وممرات متصلة داخل طبقات الأرض، نشأت من تحلل الصخور الكلسية، أو الجيرية([7]) التي تكوَّنت في العصر الطباشيري (Cretaceous period) من جراء الترسُّبات الطينية أثناء حركة نشوء الجبال في المنطقة التي كان يغطيها بحر تيثسTethys sea ، وهو بحر قديم كان يغمر منطقة واسعة تمتد من موقع البحر الأبيض المتوسط إلى جنوب غرب إيران، مارًّا بشمال العراق، وهو العصر الذي تكوَّنت – خلاله – جبال طوروس، وزاجروس، وبنطس، وعمان، وبسبب نشوئها حدث الميلان في سطح الساحل الشرقي من شبه الجزيرة العربية منحدرًا بحدة باتجاه الشرق، ومعه مالت تلك الكهوف والمجاري، منذ ما يقارب 4، 66 مليون سنة([8])، وطبعي أن ينتج – عن هذا الميلان – اندفاع المياه المتجمعة، متخللة تلك المسارب والشروخ منحدرةً بفعل الجاذبية، مولِّدةً قوة اندفاع هائلة أدت إلى النحر في النقاط الضعيفة، محدثة انفجارات مائية عنيفة في القشرة الترابية والصخرية الهشَّة في جوف الأرض لتتدفق إلى خارجها، ممتزجة بمياه البحر.
كان ذلك حين كان سطح المنطقة مغمورًا بالمياه، حيث كانت العيون مجرَّد ينابيع متدفقة في عمق البحر المالح، وبانحسار المياه، تدريجيًّا، عن سطح شبه الجزيرة في أزمنة الجفاف التي تلت العصر الجليدي (Glacial epoch) ظهرت الينابيع سائحة على وجه الأرض مشكلة جداول وأنهارًا([9])، وبحسب نظرية الأواني المستطرقة فإن تلك الينابيع ستستمر في التدفق باستمرار هطول الأمطار وتسرُّبها داخل طبقات الأرض، سواء إلى ذلك الحوض، أو غيره؛ مما هو أعلى من المنطقة التي تنبع منها.
من هذا نعلم أن قدرة الله جلَّ وعلا وحدها هي التي فجرَّت تلك العيون، وفي الذكر الحكيم يقول عز من قائل: { وَفَجَّرْنَا اْلْأَرْضَ عُيُونًا فَاُلْتَقَى اْلْـمَـآءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرْ}. القمر: 12، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّـٰتٍ مِـّنْ نَخِيْلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيْهَا مِنَ اْلْعُيُوْنِ}، يس: ٣٤. والآيات – في هذا المعنى – كثيرة في القرآن الكريم.
ثم إن العيون من الظواهر الطبيعية المنتشرة على سطح الكرة الأرضية، في أماكن كثيرة لم تطأها أقدام العمالقة؛ مما يعطي الحق في القول بأنه لا العمالقة ولا غيرهم من بني البشر، كان لهم أيُّ دور في استنباط تلك العيون، وكل ما يصح أن يُنسب صنعه للإنسان هو اصطناع ما يلائم حاجته، كبناء الجدران المحيطة في أعالي الينابيع؛ لحصر مياهها في سواق توجهها للانتفاع بها في ري المزروعات، وتعديل أو توسعة فَوْهاتها، وشق مخارجَ للتصريف لغرض التنظيف الدوري، وهو ما يسمى في القطيف: (افْصادة)، لخفض منسوب الماء حين يراد غوصها للتنظيف.
ومن الغريب أن الأستاذ المسلم (رحمه الله) قد تناول كرنلوجية المنطقة بكثير من التدقيق، مشيرًا إلى ما كانت عليه من خصوبة وجوٍّ غزير المطر في العصر الجليدي (Pleistocene epoch) بسبب تشبُّع أجوائها بالرطوبة التي تحملها الرياح الغربية، ثم الانحسار الذي طرأ عليها بسبب الجفاف([10])، ولكنه لم يلتفت إلى أن هذه التغيرات هي جزء من النشاط الجيولوجي الذي أدَّى إلى ظهور العيون.
«… وقد استخدم في بناء الحمام الحجارة المشذبة، والطين والجص، بينما استخدم في تغطية السقف جذوع النخل والحصير والطين. . . أما حمام النساء فقد غطي بالكامل بجذوع النخل وسقفه يحتوي على قبة…»([11]).
لا، يا أختي، أو يا أخي، لا وجود لجذوع النخل في قبة حمام الرجال، وأما حمام النساء، فلا قبة له أصلاً، وسقفه مستطيل كهيئة نصف القسطل (الأنبوب)، تمامًا كسقف مدخل حمام الرجال). وهو موجود إلى يوم الناس هذا.
ـــــــــــــــــــ
([1])مكتبة دار الحياة، بيروت، الطبعة الثانية 1962م، ص: 208.
([2]) واحة على ضفاف الخليج – القطيف، مطابع، الفرزدق. الرياض، الطبعة الثانية الكاملة. 1991م. ص: 288.
([3])مجلة الواحة، العدد العشرون، الربع الأول، 2001.
([4])دار أطياف للنشر والتوزيع، القطيف، الطبعة الأولى، 2017م، ص: 119 – 128.
([5]) دليل الخليج . ج.ج. لوريمر . منشورات المكتب الأميري بدولة قطر . بدون تاريخ. القسم الجغرافي . جـ 1/ 298.
([7]) أشكال الأرض في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، عبد الله بن ناصر الوليعي، مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود، ع: 11 محرم 1415هـ، ص: 286. وقاموس Encarta مادة (Karst) . ضمن موسوعة 99 Encarta (قرص مدمج(CD). وقاموسcollegiate dictionary Merriam- Webister’s ضمن دائرة المعارف البريطانية (قرص مدمج CD).
([8]) مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود . ع : 11 محرم 1415 هـ ، شكال الأرض في المنطقة الشرقية من المملكة العربية . عبد الله بن ناصر الوليعي ، ص: 269 .
([9]) قاموس Encarta مادة (Continental drift) . ضمن موسوعة (99 Encarta ) قرص مدمج CD). وقاموس Merriam – Webister’s collegiate dictionary ، ضمن دائرة المعارف البريطانية (قرص مدمجCD )، وتاريخ الشعوب الإسلامية، بروكلمن، ترجمة د، نبيه أمين فارس ، ومنير بعلبكي، دار العلم للملايين، جـ1/10.
([10])ساحل الذهب الأسود. مرجع سابق ، ص : 62 .