[قصة] جلجامش

شذى الجاسر

من بين وريقات كتاب الملحمة، قاده فضوله للتسلل والخروج لهذا العالم الذي يرى نوره كلما يُفتحْ كتابه للواقع؛ نادى بأعلى صوتهِ لأصحابه؛ فُتحَ أخيرا يا صحبتي من سيرافقني منكم في مغامرة التحرر هذه!

والبحث عن إكسير جديد غير الذي نملك؟

إكسير يشبه هذا العالم السحري الذي نراه من خلال نسمة هواء عندما ترى صفحات كتابنا النور، لم يجبه أحد، كلهم كانوا يترقبونه بصمت وحذر، ما عدا إنكيدو حذره بألا يخرج ولزم مكانه، فهذا العالم لم يُخلق لهم.

نظرَ جلجامش له بتحدٍ قائلاً: بأنه لن يتطور إن لم يكتشف، أو يغامر، وأنه سيجد إكسيراً جديداً للحياة، للخلود، للتطور، وأنه سيهزم كل من يعاديه ويواجهه. مشى بهدوء لكيلا يشعرَ به صاحب كتابه ثم يغلقه خشية تهوره في الخروج ومنعه، تعجب من منظر الكتب المتكدسة، كان هناك قلة من البشر يتنقلون بينها، صارَ يتجول بين ممراتها مع استغراب الكل من هيئته، وجد نوراً آخر أقوى من النور الذي يقف فيه، توجه له ليجد نفسه في عالم مختلف عن عالمه، رأى فيه همماً ضعفت، وأدواراً تبدلت، وعزائم تبددت. شمَ رائحةِ الخداعِ والكذب منتشرة بشكل حاد، تذوق طعم الغدر والخيانة.

استوقفَ أحدهم سائلاً: أينَ أجدُ الوفاء؟!

ضحكَ الآخر بسخرية ثمَّ قال: هو قليل الظهور، لن تجده بسهولة.

سأله سؤالاً آخر: أين أجدُ مكانا تعمُّ فيهِ رائحةُ الصدق؟!، أريدُ أن أتنفس، فقد بدأتُ أختنق.

أجابه بأنه غريب الأطوار! ثم ذهب.

تعجب من أمر آخر وهو بين يدي أناس هذا العالم، شيء حديدي، يظهر لهم أناسا يتحدثون معهم ويسمعونهم دون أن يتواجدوا في ذات المنطقة، أمسكَ برأسهُ وهو يتأوه: ما هذا؟!

إنهُ أقوى من السحر، حدّثَ نفسهُ بأنها حرب مختلفة عن حروب عالمه، شعرَ بأسى شديد لما رأى وعلم عن هذا العالم الذي يتّصف بالسفهِ والتيه، لكنهُ لن يكون ظالماً، فلهذا العالمُ جانبهُ الجميلُ أيضاً. تساءلَ عما لو امتلكَ هذا الشيء الحديدي واستخدمهُ في هزمِ أعدائه!

سئلَ عن مكانِ تواجده، فهمَ أن لابد من أوراق يقال لها نقود من خلالها يستطع اقتناءه، وهذه لا يقدر على امتلاكها حتى يعمل أو يكون شحاذاً!

استطاع أنْ يعمل حمالاً في إحدى الأسواق، ويجلسَ عندَ بابِ مسجدٍ يمد يديه، خلال مدة وجيزة حصل من جلوسه ما يكفي قيمة ذلك الشيء وأكثر!.

قبل اقتنائه جلس معهُ البائع، صارَ يعطيه تعاليم هذا الشيء، أخذ يفرجه على بعض مقاطع اليوتيوب، وتويتر، والواتسْ آب، وتيك توك. كانت المقاطعُ متنوعة ما بين محللٍ ومحرم، وبينَ مهددٍ بالنارِ وكأنهُ الإله، وبينَ من يدعو إلى تركِ الدينِ بحجةِ لا إله.

وجدَ أيضا مقاطع مخلة، ومقاطع رياضية وأخباراً، مقاطع لأناس يدعون علماً هم بهِ جهلاء، وأناسٍ يتكلمونَ عن الأدبِ ولم يذكروا ملحمته!

حدّثَ نفسهُ: مالهم؟ لِمَ لا يقرؤونَ ملحمتي؟!

توالت عليهِ المقاطع المتناقضة، رفعَ عينيهِ إلى لبائعِ قائلاً: حربكم لا تروق لي رغم كونها أشد من حربنا.

تعجبَ البائعُ من كلامهِ متسائلاً: أي حربٍ تقصد؟

أجابهُ عن حربِ ضياعِ الفكرِ والعزيمةِ والكرامة، حرب التناقض، حربٍ مبنية على هدمِ هذا الفكر. تركَ المبلغ كاملاً للبائع، أخبرهُ بكونهِ لم يعد في حاجة إليه له. عادَ إلى تلكَ المكتبة؛ جلسَ حائراً ضجراً أمامَ كتابه، والغضب أخذَ منهُ مأخذاً، والأسى فتتَ قلبه، ينظرُ إلى كلِّ تلكَ الكتب، تساءلَ: كمْ شخصاً سُجنَ بها..؟

صرخَ بصوتٍ عالٍ؛ لا تخرجوا، تمسكوا بكتبكم، فهنا عالم لا ملامح له. سمعَ صوتهُ إنكيدو، تسللَ من بينِ وريقاتِ كتابه، ربّتَ على كتفِ صديقه جلجامش، أمسكَ بيدهِ ليعيدهُ بين سطورِ ملحمتهِ وهوَ يخبرهُ بأنَّ هذا العالم لا يصلحُ لهما.

نظر جلجامشْ لكلِّ ما حولهُ بأسى وتساءل: منْ سيعيدُ كتابتي لهذا الزمنِ الغريب!

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×