[1 من 3] أليف شافاك مرّة أخرى.. أيا صوفيا، سانت بييترو، تاج محل
محمد الماجد
الصديق زكي اليحيى ينجح في استدراجي مرة أخرى إلى مربعه، كنا قد دخلنا معاً ورشة “أمل” سريعة تتعلق بروايتَي (عزازيل) و(فردقان) لـ يوسف زيدان، فعلنا ذلك بشكل مواز مع رواية (اسم الوردة) لـ امبرتو إيكو، فأمسكنا بمصر من ضفة، وبإيطاليا من ضفة أخرى، والآن اكتشفنا، الآن فقط، أن تركيا لم تكن بعيدة عنا، خمّن زكي بأن هذا هو الوقت المناسب لشد خط مصر إيطاليا المستقيم من وسطه إلى أقرب مرفأ تركي، استانبول تحديداً، النقطة التي سيتحول عندها المستقيم إلى قوس، والرياضيات إلى فلسفة، وكأننا عزمنا على أن نجر البحر الأبيض المتوسط من ذيله إلى الحضيرة التركية، بدأ القوس بمكتبة الإسكندرية، ثم الحضيرة، وانتهى بأكروبوليس روما، ولا عزاء لمن يرمون الفلسفة بكثرة الالتواء وعدم الوضوح ما دمنا هنا، على قمة القوس، نحاول اكتشاف سماء استانبول بمعونة اسطرلابين تركيين ضخمين: أليف شافاك وأورهان باموق.
زكي لا يضع قدميه إلا في مناطق روائية خصبة، وعادة ما أفضل أنا الاستثمار في ذات المناطق مستنداً في ذلك إلى ثقتي المطلقة في خبرته، وكان من الطبيعي في كل مرة، وبسبب ضيق الوقت والجشع معاً، أن أسأله عن عناوين روائية صالحة للبيع وذات فوائد معنوية عالية وسريعة، أعني فيما يختص بالكتابة، وفيما كنا نتحدث مرة وعبر الهاتف عن رواية أليف شافاك (الفتى المتيم والمعلم)، نصحني، على خلفية نقاش يتعلق بفن العمارة، بقراءتها بالقول: هناك كنز معماري مدفون في جيب هذه الرواية، فقلت له: جيد، يبدو أن الروائيين الأتراك يبرعون في خياطة الجيوب السردية لإخفاء مدائحهم ومنحوتاتهم الفنية لأهداف تتعلق بخوفهم من تعرض الفن للسرقة.
كنت بذلك أشير إلى كنز فني آخر، يتعلق هذه المرة بفن النقش، وكنت أقصد تحديداً رواية “اسمي أحمر” لـــــ أورهان باموق، فيما توقعت أن الثنائي التركي، باموق وشافاك، سيجعلان من حديثنا يمتد لأيام بعد تلك المكالمة، وهذا ما حدث بالفعل، استطرادا وملاحقة منا لكل شاردة فنية يمكن أن تجعل من المقارنة بين العملين مقارنة موضوعية وذات فائدة، وأصبح جليّاً منذ حديثي السابق عن تقنية (المنصة) أن علاقة مصاهرة في طريقها للانعقاد بين رواية (اسمي أحمر) وروايتَي أليف شافاك: (قواعد العشق الأربعون) و(الفتى المتيم والمعلم)، الأولى على مستوى البنية والثانية على مستوى الموضوع، العلاقة التي سوف تنحدر منها سرديات تركية ذات سمات غاية في الخصوصية.
إليكم المحادثة التي بدأت بتوقيع فني من زكي يخص (الفتى المتيّم والمعلّم):
– أجمل ما في الرواية لقاء رسولَي سنان بــ مايكل انجلو
– وماذا عن بقية الرواية؟
– هل تتذكر حديث سعد الفرج في مشهد القهوة من مسرحية (حامي الديار)، حين تحدث عن داخل السور وخارج السور، عن المدينة المسوّرة والمدينة المفتوحة
– بالتأكيد أتذكر، ماذا تحاول أن تقول؟
– أريد القول، وإذا ما استثنينا ذلك اللقاء اليتيم، فأن أليف شافاك في بقية روايتها لم تتمكن من الخروج من السور
– حسناً، استمر
– باختصار شديد، لكل شيء سور، وأنا أرى أن بقية الرواية مجرد قصة غرامية مكررة بين أميرة وشاب هندي من عامة الشعب، أليف لم تخرج عن السور الكلاسيكي السردي للروايات التراثية المشابهة، بقيت داخل المدينة المسورة، فلا تتوقع شيء يشبه (قواعد العشق الأربعون)، فهذه الأخيرة أقرب إلى مدينة مشيدة على شفير الغيب، جنة برزخية متعالية، وفيها من روح التصوف ما يجعلها منتجعاً أثيراً للملائكة كلما قرروا الذهاب لأداء مهماتهم الكونية، وبما إنك ما زلت هناك، أنصحك بعدم الهبوط إلى الأرض.
وبينما قمت أنا بقراءة (اسمي أحمر) منذ سنوات، وأعرف سلفاً أن أورهان ارتكب فعلاً فنّياً في هذه الرواية حين صوّرها وكأنها نقش خانة سلطانية آيلة للسقوط والتلاشي لولا أنه انتزعها من قلب اسطانبول العثمانية وضخ في سبيل أحياءها ستمائة صفحة من جهاد النقاشين المختلط بالصراعات الإمبراطورية، وحكايات العشق من مشهد وحتى البندقية، فجعلها بذلك مزيج من “ألف ليلة وليلة” و”سير الملوك” و “فن المنمنمات”، كلها في كتاب واحد وعريض، غير أني هنا، ومع رواية أليف شافاك الأخرى (الفتى المتيّم والمعلم)، ما زلت في بداية السطر الأول، وعيني تنظر بامتنان شديد إلى ما قام به أورهان، وتمنيت لو أن أليف نجحت في أن ترتكب فعلاً فنّياً هي الأخرى، ناذرة وقتها لفن العمارة هذه المرة كما يبشر عنوان روايتها، وسيكون ساعتها من السهل على أي كلية عمارة أن تقترح العملَين ضمن مناهجها الدراسية خاصة لتلك الطائفة من الطلاب التي تعاني من كسل في آلة الخيال، لعلها تحل بذلك الإرباك الذي تعانيه هذه الفئة فيما يتعلق بتصورها للأشكال ثلاثية الأبعاد وبالكيفية التي تولد بها الأفكار الأكثر تطرفاً في الفن.
لذلك كله تمنيت أن لا يكون مثال زكي عن سور سعد الفرج صحيحاً، وحتى لو كان ذلك صحيحاً بالفعل فلم يعد ذلك مهماً الآن، فأنا قررت أن اضع كل مخططاتي بخصوص الرواية جانباً والبحث بين صفحاتها عن علاقة مفترضة راحت تربط سنان بمايكل أنجلو، فهذا الحدث بالنسبة لي أهم من الرواية ذاتها، لأن مثل هذه الصدف الأدبية والفنية العظيمة لا تحدث كل يوم، سأفترض طبعاً أن أليف أتعبت نفسها في بناء هذه العلاقة، وأنها أخرجتها بشكل لائق، وسأتأكد ما إذا كانت هي من سيمهد الطريق أمام أولئك الطلاب الكسولين ليكونوا أكثر جرأة في مواجهة التاريخ، وأكثر إيماناً بأن كل سردياته ولقاه الأثريّة لا تستطيع الوقوف أمام ما اجترحته إليف وأورهان من معجزات فنّية.
غداً حلقة أخرى