[مقال] أثير السادة: الذاكرة في حروبها.. ماذا يعني استعادة الذكرى 3/5

أثير السادة*

 

إذا كان التذكر غريزة فهي لا تنسلخ حتما عن ما تؤسسه الذات من علاقة مع هذا الكون، فهي مشبعة بصفاتنا، وأحوالنا، حدود أسئلتنا وتوقعاتنا، كل ذاكرة يجري استعادتها لا يمكن أن تخرج من تأثيرات هذا التموضع بين حد الوعي وحد الذات، وما يضفي كل واحد منهما على الآخر.

نحن جزء من ذاكرتنا، لذلك يصبح الحسم في تشكيل هذه الذاكرة مرهونا بتوسط الذات، حتى ذاكرة الآخرين تستحيل بمقتضى التحيزات المسبقة للذات إلى إمكانيات لاستيفاء معان تشابه طبائعنا في إدراك الأشياء، فما يتذكره الآخرون لا ينقص من ذاكرتنا شيئا، لكنه يدفعها لإعادة هندسة الذكرى وتمثلاتها في دائرة الخطاب الذي سيكرس نمطنا الخاص في تأسيس المعرفة التاريخية.

في خطاب الذاكرة الكربلائية -مثلا- يصبح المختار الثقفي تاريخا مفصليا لأشكال الثأر التي استنهضتها حادثة كربلاء، حيث القصاص الدنيوي من المتورطين في هذه المعركة الظالمة، تمهد هذه اللحظة التاريخية لسيرة الرجل قبل وبعد الحادثة، فهي من تشكل صورته الأشهر في مدونات التاريخ التي يستعيدها قراء المآتم، وحراس الذاكرة الكربلائية بكثير من الحماس، في حين يستدعي الفريق الآخر تقلباته في تاريخ الولاءات، وصعوده على كتف الحادثة طمعا في مناصب وامتيازات.

المختار الذي يبدو في دفاتر المادحين النبوءة المؤجلة التي ذكرها الحسين في دعائه على أعدائه ” وسلط عليهم غلام ثقيف”، لا يعدو في نظر الفريق الآخر أن يكون المصداق للكذاب الذي أنبأ عنه الرسول في حديثه ” في ثقيف كذاب ومبير”، ستجب صورة “الإنتقام” كل الصور السابقة واللاحقة في التراث الكربلائي، فهو باب الفرح على قلوب الأئمة كما في نصوص المرجحين لمديح الرجل، بينما يرزح في دوائر الآخر تحت تهم ادعاء النبوة وتأسيس عقائد باطلة، وحب السلطة، ونسب طويل في عالم الكذب.

القول باختلاف الروايات فيه سرعان ما يعقبه التذكير برحجان المديح على الذم في هذا المجموع من النصوص والشواهد التاريخية، يمضي المنحازون للذاكرة الكربلائية بكثير من الطمأنينة ودون تحفظ لهذا الجواب وهم يستذكرون إدخال السرور في قلوب أهل البيت بقتل أعدائهم، ينكمش هنا الزمن التاريخي عند حدود كربلاء ليتمدد ثانية على هوامشها، فلا تاريخ يتخطى هذا التاريخ ويجاوزه في آثاره، فكربلاء بحسب هذا التوصيف ليست مجرد فاصلة تاريخية، بل شبكة من المفاهيم التي تعيد صياغة طموحات الذاكرة، الأمر الذي يفسر شهرة القول بمديح المختار، رغم الفضاء الشاسع للاختلاف حوله، فالاحتفاء به هو من باب الاحتفاء بهزيمة الذين تعاضدوا على إماتة “الهوية” و “الذات”، والذين حاولوا كتابة ذاكرة بديلة لها.

بين المختار وصورته مسافة، تختبئ فيها تمثلات الذات، والوعي بالذات، مسافة تختصر الطريق إلى ساحة الاختلاف السياسي الذي يوجه الصور المتصارعة لهذه الشخصية ذات الحضور الكثيف في المدونات الكربلائية، إلى المصالحات والتعارضات التي يمكن أن تنولد في فضاء التذكر، ونحن نلج إلى عالم شخصية لا يراد لها أن تبسط على خط التاريخ خارج حدود الأيدلوجيات المتحاربة، وخارج حروب الذاكرة، ما يرشحها دائما لأن تكون محل خلاف، وأن يصبح تكرار التذكر عنوانا لتوسيع أفق الإختلاف حولها.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×