وشار الغنجة.. أسرار صنعة القلاّف معجم البحر يترجم الدركال والهباب والكلفتة
حسن دعبل
قبل أن يُسدل الستار على نسخة كأس العالم، وقبل ليلة المباراة التي ينتظرها عشاقها باختلاف مواقيتهم، كانت “الغنجة” التي وشرها بحارة عُمان هدية للأمير، عرفانًا لشكرهم لِما قُدم لهم من حسن المقام، والمنام، والضيافة. الغنجة وهي تتمايل، وتُزف كعروسٍ، تتهادى بين الأيدي التي تدفعها إلى البحر محمولة فوق الطعوم من تحت بِيصها. حُدّرت الغنجة بخفّةٍ محفوفة على صفحة الماء، وبطقسٍ ربما أذهله النسيان منذ زمنٍ بعيد؛ شاةٌ ذُبحتْ أضحية مباركة، وطهارة، وحرزاً عن الحسد والأخطار. وإكمالاً للمشهد، وللطقس البحري، عُلّگت “الغنجة” بحبل الدوار على سِيف كتارا . تلك واحدة من طقوس مهرجان المحامل التقليدية في كتارا، لم يلتفت لها أو تشدّه، إلا من شدّ به الحنين، وضاقت به أوقات النسيان.
فما هي أسرار القلافة؟
هناك إعتقاد عند أهل البحر، بأن المرأة العاقر إذا أرادت الإنجاب، عليها أن تتحين الفرصة والمراقبة. فعند وشار سفن الخشب، عليها أن تقفز أو تنط “البِيص”، حتى لو حُفر “الفِلس”.
لذا يتعمد صاحب اللّنج أو النوخذا، بأن يأمر أحد بحريته بالحراسة الليلية، أو حتى نهاراً عند إستراحة الگلاف وقيلولته. لكن إذا نجحت العاقر في حيلتها وقفزتِها فإنها ستلد ولداً. أما السفينة فستغرق في أول إبحارها، وتتكسر ألواحها، وتتقاذفها الأمواج وصعابها؛
وهذا الإعتقاد ظلّ راسخاً حتى في فتراتٍ متأخرة من موت سفن الغوص الخشبية على الأسياف؛ لذاك مورس بشكل آخر، كالقفز على صخرةٍ مباركة أو نخلة تُعلّق عليها الأنواط، أو حتى زيارة مسجد يوجّب نذره، والتبرك به. لكنه في الأساس يتعلق بوشار وصناعة أو قِلافة السفن.
هناك تعالق بصنعة سفينة نوح، والطوفان كما ورد في القرآن الكريم. حيث أتونابشتم الناجي أيضاً من الطوفان حسب ملحمة جلجامش، وما سُطّر في ألواحها ومَردِياتها المُخلّدة في أسياف دلمون. ولعل الذي شاع بين العامة وأهلها، أنّ القلافة هي الغلافة بالغين قبل النطق بلسان صوتها، وهو تغليف السفن بمادة القار من الداخل والخارج، وتغليف هيكلها بالألواح الخشبية “البِدن” من مقدمتها حتى مؤخرتها. فالگلاّف أو القلاّف الذي تعلم مهنته وراثة من أبيه وجده حتى آخر الأسلاف، لو سألته كيف تعلمت وشار الخشب، أو من علمك إياها، ومن علّم أبيك؟
سيقول لك الله سبحانه وتعالى وهبنا الصنعة. وأنّ نبي الله نوح عليه السلام هو أباً للقلاّليف كافة؛ بنى سفينته بوحي من السماء، فكانت الناجية من الطوفان.
لكن لهذه المهنة أسرارها وخباياها، وطقوسها، ومفرداتها الغامضة التي لا يعرفها سوى أهل البحر وأسيافه!
ففي الفترة من موسم السّرايات، وقبل ابتداء موسم الغوص بأشهره المُقبلة وسفره، تبدأ خدمة “الدّركال” وكلفَتة الخشب قبل حِدّارها. فا لدّركال ربما يقوم به قلاّف أو أكثر، وخاصة في استبدال البِيص والمِيل أو شِخاصه من لوح السفينة. أما الكلفتة فهي صيانة السفن قبل إبحارها وبعده بالفتيل أو الكنبار، ومسامير البادور والچاويه. فالخِّن يُطلى بالقار، و ما بعد لوشار والإبحار؛ وهي دورية سنوية قبل موسم الغوص. حيث تتزاحم الأسياف بالناس بعد غطّة الشتاء وغطائه. وبعد الكلفتة، يُطبّع أو تُطبع المحامل، الأبوام، واللّنجات في سطوة البحر لتنظيفها من العوالق والنّشار والقوارض التي عَلقت بها إثناء دركالها و كلفتاتها؛ ف “تُيدّف” مرة أخرى في غَليل السطوة والخور، بعد نزف يمّتها. ثم تبدأ مرحلة أخرى من الهَباب والفراك، والتشوين.
لكن هناك من يعتقد أن “التشوين” أو دهان السفينة وطلاءها من الأسفل، هو للزينة!
فالتشوين: هو أن يُغلى الشحم المطبوخ و المخلوط مع الودچ “والهچ” أو النورة، وتطلى أو تشوّن به حملات السفن الخشبية. فهذه المادة تحافظ على خشب السفينة من “النوّ” الذي يتكلس على حملتها، وكما هو “الصّل” الذي يدهن به خشب “الساي” من السَدر إلى تُفَر؛ أي من الهِنّاب أو الگصه حتى الرقعة أو لِحياب، ليعطيها تلك المتانة والبريق، بعيداً عن رائحته التي تدوّخ الرؤوس.
عليك أن تعرف أنّ لهذه المهنة، وشارها وخشبها وأهلها، حكايات وطقوس ومفردات. ولكافها وقافها وغينها، صبر وكلفة وفاقة اليد والعوز. ولمواسم الغوص ولائم وغناء، وحسرات، وسفر المحامل غياب وبنادر موحشة.
ـــــــــــــــــ
الغنجة: وهي سفينة عُمانية، من السفن الكبيرة الحجم، وتستخدم في نقل البضائع والإبحار لمسافات بعيدة وطويلة.
وشار: تشييد أو نجارة هيكل السفن وتطلق على السفينة الموشورة . والسفينة المستخدمة والقديمة تُسمى عشار.
الدّركال: استبدال بعض ألواح السفينة من هيكلها الموشور.
حِدّار: إنزال الخشب في البحر بعد وشارها، أو الدّركال والكلفته.
كلفته: صيانة الخشب بعد لوشار بفتيل الكنبار ، وسد الشقوق بين الألواح، وتغيير البِدن.
التشوين: وتسمى الشونه وهي مادة النورة المسحوقة مضافة إليها شحم اللّيه والودك “الودچ”، أو شحم الحوت.
الهَباب: فراك وتنظيف الخشب من الخارج من النوّ. والنوّ هو ما يتكلس على الخشب من ملح الماء، ويكوّن رؤوس تجرح وربما تعيق سير السفينة.
الخِّن: السفينة من الداخل بعد صف الشلامين والعِطف، أي الضلوع.
اليِدّاف: الألواح التي تقف عليها اللنجات والسفن في حالة الثبر، أو في الأسياف.
الصّل: يستخرج من كبد سمك الحوت -اليريور- والدلفين ويُسمى عند بحرية الخليج “الدغس” ، وأحياناً يخلط مع “الودچ”. وهناك من يعتقد أنه يُستخرج من دهن شحم الحوت، وأيضاً من سمك العومه أو السردين، وهناك طرق تقليدية للحصول على دهن الصّل العجيب.