[مقال] أثير السادة: الذاكرة في حروبها..ماذا يعني استعادة الذكرى؟ 2/5
أثير السادة |
في مطلع كل عام هجري، تصبح عاشوراء في الروزنامة عنوانا للتنازع بين المتخاصمين، ودليلا على الإزاحات التي تخضع لها الذاكرة، فالسنة يجدونها مناسبة للصيام كبيرة الفضل، باعتبار أن الرسول (ص) برأيهم قد وجد اليهود عليها واستحسن فعلهم لأنها بمثابة الشكر لنجاة النبي موسى من فرعون، ويذهب بعضهم في أكثر الصياغات تعصبا إلى إعتبارها مناسبة لإظهار الفرح والسرور، ويرافق ذلك استنكار لجعلها موسما للدموع، وهذا ما يتعارض مع الشيعة الذين يرون هذا التاريخ محطة لاستعادة التفاصيل المأساوية لواقعة كربلاء، وما جرى فيها من أحداث على أهل بيت الرسول (ص)، ويفندون القول باستحباب الصيام فيه، فهو في السائد من آرائهم حكم منسوخ، بل ومنهي عنه لما فيه من تشبه بأفعال الأمويين.
“كاذب ومفتر من ينكر صيام عاشوراء”، هكذا يصرخ المفتي، ومبتدع ومحاك لفعل بني أمية الذين أظهروا السرور والفرح وهم يصومون هذا اليوم في قول الطرف الآخر، في هذا السجال يستحيل الصيام قرينا للفرح، على اعتبار أنه لا صيام في الحزن كما يحكي بعض فقهاء الشيعة وهم يقلبون حكم الصيام في هذا اليوم، ويبحثون عن محطاته التاريخية المختلفة..سنجد بأن التموضعات ليست على حد الحكم الفقهي فقط، فالمرويات المتناثرة على جانبي الطريق المؤدي للحكم وافرة ومتناقضة، إلى القدر الذي يجعل البعض يرى الصيام متوقفا على نية الصائم، فإن صام بنحو يشابه فيه الفريق الآخر فهو محذور، وإن صام احتسابا وحزنا على ما جرى، فهو مندوب.
الكراهية والاستحباب حكمان شرعيان، لكنهما مبنيان على أفعال التذكر، بمعنى أن ما نستدعيه من تاريخ هو ما يرسم ملامح الحكم، هنالك قلق واضح من خارج النص يرسم حركة النص وحدود تأويلاته، من غير كربلاء قد يكون الإفتاء مختلفا، ووجهة الندب والتشريع مغايرة، لأن خصوصية الزمان اتسعت بولادة هذه الواقعة وما بعدها من نصوص، لذلك يتخير المفتي التنبيه إلى فضل صيام عاشوراء، وإرداف ذلك بالتشنيع على الذاكرة الأخرى، ذاكرة كربلاء وما يتصل بها من سرد وطقوس وتأويلات، هنا بالتحديد تطل الخصومات المستعارة من خارج الموضوع، ويستحيل التفكير في شأن الصيام إلى حقل للتفكير في إزاحة الذاكرة بذاكرة أخرى.
بهذا يصبح الصيام الذي يقدم كتربية على “إحياء السنة” عند الفريق الأول، مجرد نيات مبيتة لطرد ذاكرة الشهادة الكربلائية عند الطرف الآخر، أي أنه في لحظة الاستقبال سينتمي إلى أفعال الخصومة وتمثلاتها، فهذا المحقق القمي في القرن الثامن الهجري يصف الصوم في هذا اليوم ” من جهة اليمن والتبرك” بأنه حرام “بل قد ينتهي إلى الكفر”، لأن المضمر في هذه الذاكرة البديلة بحسب القارئين لمستويات النص الديني من الفريق المقابل هو تشتيت الناس وتفريقهم عن الصلة بالذاكرة الأكثر سخونة، أي كربلاء في امتداداتها السياسية كعنوان للخلاف حول مفهوم الإمامة.
هذه الشكوك تجد لها ما يحركها في نصوص التاريخ، فالمسألة لا تتعلق بسوء استعمال الذاكرة، وتحويرها عن معانيها، وذكرياتها، بل تتصل بأفعال التدليس والتزريق التي نالت النصوص المتعلقة بمسألة “صيام عاشوراء”، حيث استمرارية الصراع الكربلائي قد أوجدت نصوصا تهب هذا اليوم صفة الفرح والسرور، وتجعل من الصيام ذاته نافذة للانزلاق في التأويلات البديلة، وهو ما حفز إبن الجوزي، وحتى ابن تيمية على خصوماته الطويلة، إلى استنكارها واعتبارها من أفعال الابتداع، في المقابل كانت المعالجة لذكرى النصوص المحرضة على الصيام العاشورائي في دائرة التشيع تتجه ناحية إرجاعها إلى عنوان “التقية” تارة، والنسخ تارة أخرى، والضعف في أحيان كثيرة.
والحاصل أن الطابع السجالي الذي انتهى إليه الحكم الفقهي، يؤسس في كل فترة زمنية إلى ذاكرة جديدة، ليست مقطوعة عن التي قبلها، لكنها بمثابة التكرار الذي يعيد تحويل الماضي إلى حاضر محايث، إلى صورة لا تغيب، لكنها تتكثف، تتحول، كلما تحولت العلاقة بين الذكرى والواقع، ضمن صيغ استحضار لا تخطئ طبيعة الصراع الدائم بين الذاكرة والنسيان، بين ما نريد تذكره، وما نريد نسيانه.