[مقال] أثير السادة: الذاكرة في حروبها..ماذا يعني استعادة الذكرى؟ 1/5
أثير السادة |
يمضي بول ريكور إلى الإيمان بأن كل الجماعات تولدت عن حروب، وهذه الحروب في حدها الأدنى حروب كلامية، حروب من السجال وإعادة التذكر، وذلك ضمن محاولة كل جماعة تشكيل هويتها الخاصة، هنا يرى بأن فائض التذكر عند فريق يقابله نقص لدى الطرف الآخر، وكل حماسة لذاكرة ما يقابلها تردد في الجهة المقابلة، بمعنى أن التذكر الذي يمارسه الفريق الأول هو بمثابة محاربة للنسيان الذي يدافع عنه الآخر.
والجماعات المتنازعة لا تملك نفس الذاكرة، لأن العمل على الذاكرة، أو ما نسميه إعادة التذكر، هو بمثابة انتاج تاريخ خاص لكل جماعة، تاريخ لا تغيب عنه أفعال الأيدلوجيا التي توجه أفعال التذكر وتصوغ لنا ما ينبغي تذكره وما ينبغي نسيانه، وتعيد بالتالي ترسيم حدود الهوية في علاقتها بالزمن، وبمعطياته، حيث يتشابك الحاضر بالماضي ضمن سيرورة علاقته بالآخر، وحيث يشتهي كل فريق تخليق صورته المشتهاة لهذا الماضي.
التنازع على الذاكرة هو جزء من هذه الحرب المستمرة بين الجماعات، لذلك تقام الاحتفالات للتذكر، لإحياء مناسبات تضمن للهوية فيضا من الزخم الروحي المولد للمعنى، أي معنى الجماعة في توحدها، وفي هذه القسمة يجري استدماج مشاعر النصر والهزيمة، الشعور بالفخر والذل، لذلك يجري إعادة تعريف الذات والآخر عبر متواليات السرد التي ستبني مايسميها ريكور “هويات سردية”، عبر اختزال سيرة الحياة في محطات زمانية معينة، هي بمثابة علامات دائمة لا تتغير، ويجري معها نسج قصص تكون هي بمثابة التاريخ، أي أن التاريخ هو بالنتيجة هذه الوقائع مضافا إليها أفعال التخييل التي تكشف عن انحيازاتنا.
تقوية الذاكرة في جانب وإضعافها في جانب آخر هو لون من ألوان السلطة، أي النزعة للتحكم بما يتصل بسؤال معرفة الذات وتمييزها عن الآخر، فمركزية الذاكرة في صياغة الهوية هي جزء من هشاشتها التي تنشأ من ثبات الذات رغم ديمومة الزمن، كما هو التثبيت المفترض لصورة الآخر الذي يظل عنوانا للمواجهة في صياغة الهوية، فالنحن لا تستقيم صورتها إلا بالمقارنة، والتشديد على الفوارق، ليصبح هذا الآخر هو جزء من تعريف الذات تحديدا.
ليس هنالك من ذاكرة إلا ذاكرتنا، أي أن الذاكرة هنا ليست بالمعطى التاريخي الخام، بل ما خضع لأفعال التذكر، والتي تصاغ وفق رغباتنا ومصالحنا، فمن غير الممكن أن تتساوى الذاكرة في التنازعات، حتى في تسمية الأشياء، وإعطائها ما تستحق من الوصف، هنالك مخيلة نتكيئ عليها لتمرير هذه الأشياء، مخيلة تختزل كل التآويل التي نجمعها لتثبيت معنى ما، ذاكرة ما، وهوية ما.
واقعة كربلاء مثال على هذه الذاكرة التي تفيض في مكان، وتنقص في مكان آخر، لا يكفي القول بأن هذه الواقعة هي حدث إسلامي لتصبح شأنا مشتركا بين المسلمين، فهي في لحظة استعادة الذاكرة لا تكف عن تذكيرنا بما نريده منها، هي باب للكلام عن هويتنا قبل هوية الحدث، ويصبح هذا الاستذكار مؤشرا على أفعال النسيان في الطرف الآخر..هذه الشراكة في كتابة تاريخ الحادثة لا يعني الشراكة في استذكارها، هناك مسافة من التآويل تفصل بين الفريقين، تآويل تتضاعف كلما تباعدت المسافة بينهما، واتسعت دائرة الخصومة حول التاريخ/الذاكرة، فما ينتهي كحدث تاريخي ضمن أفق زمني معلوم، يصبح دفقا مستمرا على خط الزمن، يحتمل التكرار والتكثيف، فتكون بذلك حدثاً ممتدا في الماضي والحاضر والمستقبل، يعاد استكشافه، بل وحتى إنتاجه.
كربلاء “ليست حكرا على أحد”، جملة يجري استهلاكها بنحو متكرر، كربلاء الحسين، كربلاء الحادثة، كربلاء التاريخ، كل هذه الأوصاف يعاد التذكير بها حين الإشارة إلى ذاكرة كربلاء المفتوحة على الأفق الإسلامي والإنساني، لكن كل هذا لا يكفي لقطع الصلة ونفي الاختصاص الذي انتهت إليه العلاقة بين “كربلاء” والذاكرين لها، كل استذكار لها هو تذكير بتلك المسافة التي تتخذها من الآخرين الذين لا يحيلونها إلى ذكرى سنوية، ولا إلى سرد جديد، فهذا الاستذكار المتواصل هو بمثابة الصقل للصورة المقترحة لهذه الواقعة، والاستمرار في استملاكها.
من هنا يبدو التباين في الحضور والغياب بين ذاكرتين، ذاكرة هنا وذاكرة هناك، ذريعة للكتابات الغربية لموضعة معركة كربلاء على شريط الصراعات التاريخية الأولى بين السنة والشيعة، فالحسين وفق هذه القسمة كان يقاتل دفاعا عن الصورة التي ينتخبها الشيعة لصيغة الحكم، بينما كان فريق يزيد ينافح عن تلك الصورة من الحكم التي امتدت في ذاكرة السنة، وأصبحت ضمن اختصاصاتها، وبهذا يستحيل التاريخ تواريخ عدة، ليست فقط تاريخ المنتصر وتاريخ المهزوم، لكنها تواريخ تصنعها أفعال التذكر المفتوحة على رغبة إيجاد معان صائنة لهوية الجماعة.
_________
*من صفحته على الفيسبوك.