[مقال] سالم الأصيل: “ترنيمة عيد الميلاد” وترنيمة عاشوراء
سالم الأصيل |
الشطر الأول من العنوان، هو اسم رواية شهيرة للروائي الإنجليزي الشهير تشارلز ديكنز (1812- 1870م)، الرواية التي تحكي قصة (سكروج) الذي كان يصف عيد الميلاد بـ “الهراء” و “الكلام الفارغ” إلى أن زاره في المنام شبح صديقه الراحل مارلي، شبيهه في الشُحّ، الأخير في زيارته الشبحيّة حذّر شريكه من طريقة تعاطيه مع الحياة، مستعينًا على ذلك باصطحاب أرواحٍ ثلاثة: روح عيد الميلاد الماضي، والحاضر، والمستقبل.
لا شك أن لاختيار تشارلز ديكنز أدبيّات (الحلم) و (الروح) دلالة رمزية مقصودة.
حين يكون الحديث عن عيد الميلاد، هذا المرتبط بشخصية روحية مؤثرة وملهمة كالمسيح. ملهم الحب والخير والسلام، ومعلم الصلابة والثبات على المبدأ حتى آخر رمق من الحياة.
كذلك سيكون الأمر حين يتعلق بشخصية الحسين بن علي، هذا الإمام الثائر، ملهم الحرية والأحرار، مُشهِرُ الـ “لا” في وجه أزمنة استلاب وتخدير يكاد أن يصح توصيفها بأزمان الـ “نَعَم”.
وما أكثر المشتركات بين هذين الخالدين.
تحتاج مناسبات وذكريات واحتفالات أشخاص من هذا الطراز الروحي الرفيع إلى روحيّة عالية، تستحضر أرواحهم، روحية تأخذ إلى الجوهر، جوهر القيمة الروحية المُتضمّنة – على شدة بروزها وجلائها – التي قدمتها وضحت من أجلها.
لكن هذا صعب في عالمٍ تطغى فيه المادّة، والماديّات، عالم يُثمّن المادّة، ويُبخَس الروح، يُهمّشها حدّ إنكارها.
خصوصًا ممن تشرّب قيم هذا الزمان، وتماهى معه إلى الحد الذي جعل الضجر والكآبة سِمَته، والسرعة شعاره، والمنفعة – بمعناها المباشر والمجانيّ- جوهره.
لعلّ في هذا سرًّا من أسرار النزوع المرتدّ والعنيف غالبًا إلى الروحانيّات، في طور هذا التدافع والتنازع الممتد بين الماديّ والروحيّ.
يقول المثل الشعبي: “الزايد أخو الناقص”، وعلى ضفته يمكن أن يقال: الانغماس اللاواعي في الحالة الروحيّة، ولنُسمِّها العاطفيّة المجرّدة، يؤدي إلى نتيجة مآلها الانغمار في حالة طقوسيّة فارغة تشبه الهستيريا، لا تؤدي إلا إلى الإبعاد عن جوهر الحدث، وما يكمن وراءه من أهداف ومبادئ.
لكنّ الإحجام عنها بحجة الوعي والعقل والحداثة يُغفل الطبيعة البشرية المتوازنة، تلك التي تحتاج الروح كما تحتاج العقل، بل إننا في هذا الزمان بِتنا أحوج إلى ما يشعرنا بوجود هذه الروح التي تراكمت عليها أتربة المادة.
المادة التي تقسو كثيرًا على الروح، حدّ افتقارها إلى ما يشبه الأرواح المصاحبة لشبح مارلي.
وكما يحتاج العقل إلى زيت، فإن الروح تحتاج إلى ماء لتبقى على قيد الحياة، ومن أسباب حياتها سيرة الملهمين الروحانيين.
يحتاج المرء إلى ذلك التوازن بين حاله كائنًا أرضيَّا يقوم بدوره على وجه البسيطة، وبين كونه لائذًا سماويًا معقودًا بقوسي الأصل والمعاد.
وإن كان ثمة غضاضة في الهوس بالروحانيّات؛ وهذا ليس مجانبًا الصواب، فـ “الهوس بالماديّات أغبى من الهوس بالروحانيّات”، كما يرى الكاتب المصري عبّاس محمود العقّاد.
هذا إن كنّا في معرض المفاضلة والمقابلة بين الهوسين.
أما لو كنّا بصدد محاولة الحياد، لقلنا: وكأنّ الإنسان متطرف منحاز بطبعه، فهو إما إلى هذا وإما إلى ذاك.
وكأنّ لا سبيل للوسط بينهما. كلٌّ منهما يجذبه بقوة إلى جهته حصرًا.
وإذا كان مارلي قد “مات كمسمار الباب” كما يقول المثل، إشارة إلى أن مسمار الباب أكثر موتًا من أي نوع من أنواع المسامير، كما يصف ديكنز في مطلع الرواية، ثم خلّدته الرواية، فلا ندري أيّ مانع من أن يُخلّد التاريخ – وها هو لم يمانع – هذه الشخصيات الفذة الخالدة التي ألهمت البشرية على مدى الأعصر والأزمان، بأصحابها الذين عاشت أطيافهم في قلب الوجود البشريّ كأزهار في أرض قاحلة، دليلاً يقود إلى الحياة، ليستحيل الناس في أثرهم كأزهار عباد الشمس تتبع الشمس طلبًا للحياة.
الحياة الخالدة الأبدية، تلك التي ترتكز كـ “مسمار في لوح”، غير أنه يعمل كإسفين يفلق الأخشاب الهزيلة ليغرقها في لُجج النسيان، تذهب كالزبد جُفاءً، فما يمكث في الأرض إلا ما ينفع الناس.