[تحقيق] من أين جاء قول القاسم للحسين في كربلاء “الموت أحلى من العسل”…؟ الراوي الوحيد مجروح عند بعض أهم علماء الرجال الشيعة من النجاشي إلى السيد الخوئي

وصلت إلينا أربعة من كتبه.. ووصفه علماء بـ "كذاب، فاسد، لا يُلتفت إليه"

لا يُنكر الباحث الشيخ علي الفرج استشهاد القاسم بن الحسن بن علي أبي طالب في كربلاء مع عمه الحسين، عليهما السلام. ولكنه يُحقّق في روايات يتناولها أصحاب المنابر، ويستنتج ما يمكن التثبت من صحته، أو التخلّي عنه، طبقاً لآلية البحث القائمة على التحقيق والتمحيص.

وفي هذا التحقيق؛ يضع الشيخ الفرج الرواية التي تضمنت قول القاسم لعمه إن “الموت أحلى من العسل”، في مختبر البحث التاريخي، متوصّلاً إلى أصل الرواية ومصدرها الوحيد، كما يرى. ثم فاحصاً الرواي من خلال شهادات علماء الرجال الشيعة الذين جَرَحُوا صاحب الرواية أكثر مما عدّلوا، فقد وُصِف الحسين بن حمدان الخصيبي أو الحضيني الجنبلائي بـ “كذاب فاسد”، لدى النجاشي وابن الغضائري وابن داوود الحلي والعلامة الحلّي، وتبعهم السيد الخوئي. ولم يُعدّله إلا متأخِّرون.

———————-

تحقيق حول رواية «الموت أحلى من العسل» على لسان القاسم بن الحسن (ع)

بقلم: الشيخ علي الفرج

جاء في كتاب (الهداية الكبرى) لمؤلفه أبي عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبى (ت 334ﻫ)، ص 205: «وَعَنْهُ [أبي عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي] عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَاصِمٍ الْخَيَّاطِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ (ع)، يَقُولُ‏: لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ فِيهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع)، جَمَعَ أَهْلَهُ وَأَصْحَابَهُ فِي لَيْلَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا أَهْلِي وَشِيعَتِي، اتَّخِذُوا هَذَا اللَّيْلَ جَمَلًا لَكُمْ وَانْجُوا بِأَنْفُسِكُمْ، فَلَيْسَ الْمَطْلُوبُ غَيْرِي وَلَوْ قَتَلُونِي مَا فَكَّرُوا فِيكُمْ، فَانْجُوا بِأَنْفُسِكُمْ رَحِمَكُمُ اللَّهُ، فَأَنْتُمْ فِي حِلٍّ وَسَعَةٍ مِنْ بَيْعَتِي وَعَهْدِ اللَّهِ الَّذِي عَاهَدْتُمُونِي. فقالَ إِخْوَتُهُ وَأَهْلُهُ وَأَنْصَارُهُ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ: وَاللهِ، يَا سَيِّدَنَا أَبَا عَبْدِ الله، لَا تَرَكْنَاكَ أَبَدًا، أَيْشٍ‏ يَقُولُ النَّاسُ: تَرَكُوا إِمَامَهُمْ وَسَيِّدَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ وَحْدَهُ، حَتَّى قُتِلَ، وَنَبْلُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ اللهِ عُذْرًا، وَحَاشَ لِلَّهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَبَدًا، أَوْ نُقْتَلَ دُونَكَ. فَقَالَ (ع): يَا قَوْمِ، فَإِنِّي غَدًا أُقْتَلُ وَتُقْتَلُونَ كُلُّكُمْ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ أَحَدٌ. فَقَالُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْرَمَنَا بِنُصْرَتِكَ وَشَرَّفَنَا بِالْقَتْلِ مَعَكَ، أَوَ لَا تَرْضَى أَنْ نَكُونَ مَعَكَ فِي دَرَجَتِكَ يَا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ؟! فَقَالَ لَهُمْ: خَيْراً. وَدَعَا لَهُمْ بِخَيْرٍ فَأَصْبَحَ وَقُتِلَ وَقُتِلُوا مَعَهُ أَجْمَعِينَ.

فَقَالَ لَهُ الْقَاسِمُ ابْنُ أخيه الْحَسَنِ: يَا عَمِّ، وَأنَا أُقْتَلُ؟! فَأَشْفَقَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، كَيْفَ الْمَوْتُ عِنْدَكَ؟، قَالَ: يَا عَمِّ، أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ. قَالَ: إِي وَاللهِ، فَذَلِكَ أَحْلَى، لَا أَحَدٌ يُقْتَلُ مِنَ الرِّجَالِ مَعِي أَنْ تَبْلُوَ بَلَاءً عَظِيماً، وَابْنِي عَبْدُ اللهِ إِذَا خِفْتُ عَطَشاً؟. قَالَ: يَا عَمِّ، وَيَصِلُونَ إِلَى النِّسَاءِ حَتَّى يُقْتَلَ عَبْدُ اللَّهِ وَهُوَ رَضِيعٌ. فَقَالَ: فِدَاكَ عَمُّكَ؛ يُقْتَلُ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا خِفْتُ عَطَشًا رُوحِي؟، وَصِرْتُ إِلَى خِيَامِنَا فَطَلَبْتُ مَا أُولِينَاهُ فَلَا أَجِدُ، فَأَقُولُ: نَاوِلْنِي عَبْدَ الله أَشْرَبُ مِنْ فِيهِ أَنْدَى لِهَوَانِي، فَيُعْطُونِي إِيَّاهُ فَأَحْمِلُهُ عَلَى يَدَيَّ، فَأُدْنِى فَاهُ مِنْ فِيَّ، فَيَرْمِيهِ فَاسِقٌ مِنْهُمْ – لَعَنَهُ الله – بِسَهْمٍ فَيُخِرُّهُ، وَهُوَ يُنَاغِي، فَيَفِيضُ دَمُهُ فِي كَفِّي، فَأَرْفَعُهُ إِلَى السَّمَاءِ وَأَقُولُ: اللَّهُمَّ صَبْرًا وَاحْتِسَابًا فِيكَ، فَتَلْحَقُنِي الْأَسِنَّةُ مِنْهُمْ، وَالنَّارُ تُحْرِقُ وَتَسَعَّرُ فِي الْخَنْدَقِ الَّذِي فِي ظَهْرِ الْخِيَمِ، فَأَكِرُّ عَلَيْهِمْ فِي آخِرِ أَوْقَاتِ بَقَائِي فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ مَا يُرِيدُ الله. فَبَكَى وَبَكَيْنَا وَارْتَفَعَ الْبُكَاءُ وَالصُّرَاخُ مِنْ ذَرَارِيِّ رَسُولِ اللِه (ص) فِي الْخِيَمِ. وَيَسْأَلُنِي زُهَيْرُ بْنُ الْقَيْنِ وَحَبِيبُ بْنُ مُظَاهِرٍ عَنْ عَلِيٍّ فَيَقُولَانِ: يَا سَيِّدَنَا عَلِيٌّ؛ إِلَى مَا يَكُونُ مِنْ حَالِهِ. فَأَقُولُ مُسْتَعْبِرًا: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَقْطَعَ نَسْلِي مِنَ الدُّنْيَا. كَيْفَ يَصِلُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ أَبُو ثَمَانِيَةِ أَئِمَّةٍ، وكَانَ كُلُّ مَا قَالَهُ صَارَ».

هذا الكتاب هو المصدر الوحيد من الكتب القديمة التي نقلت عبارة الرواية: «قَالَ الإمام الحسين ع: يَا ابْنَ أَخِي، كَيْفَ الْمَوْتُ عِنْدَكَ؟ قَالَ القاسم: يَا عَمِّ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ». وقد نقل جزءًا من الرواية السيد هاشم البحراني (ت 1107ﻫ) في كتابه: (مدينة المعاجز)، وقد نقلها أيضًا الطريحي في منتخبه، ص 365.

شخصية المؤلف

أبو عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي أو الحضيني الجنبلائي، المولود سنة 260ﻫ في جنبلاء التي يُنسب إليها، وهي بلدة بين واسط والكوفة. والمتوفى في ربيع الأول سنة 358ﻫ. وهو راوٍ ومُصنّف وشاعر إمامي، وقد ترجم له مجموعة من علماء الرجال من الإمامية(1).

كما ترجم له ابن الحجر العسقلاني في (لسان الميزان) ج2/ 34، فقال عنه: «الحسين بن حمدان بن الخصيب الخصيبي، أحد المصنفين في فقه الإمامية، ذكره الطوسي والنجاشي وغيرهما، وله من التأليف: (أسماء النبي وأسماء الأئمة) و(الإخوان) و(المائدة)، وروى عنه أبو العباس بن عقدة وأثنى عليه، وقيل: إنه كان يؤم سيف الدولة، وله أشعار في مدح أهل البيت، وذكر ابن النجاشي أنه خَلَطَ(2)، وصنّفَ في مذهب النصيرية(3)، واحتج لهم، وقد عُرِفَ عنه أنه يقول بالتناسخ(4) والحلول(5)».

من مؤلّفاته:

ما وصل إلينا من كتبه أربعة، هي:

  • الهداية الكبرى، ويسمى: «رسالة في أسماء النبي والأئمة (ع)»، ويسمى أيضًا: «تاريخ الأئمة (ع)»(6)، وقد رتّب كتابه في أربعة عشر بابًا للأربعة عشر معصومًا بأخبارهم وفضائلهم (ع).
  • فقه الرسالة الرستباشية، وهو شرح لكتاب (الرسالة)، لكن الرسالة لم تصلنا، وفي هذا الكتاب تأصيل للعقيدة النصيرية.
  • المائدة، وهو من الكتب التي تبين أهمية طلب العلم ومراقبة النفس.
  • الديوان، وكثير من شعره مليء بالصور والتعبيرات القريبة من الشعر الحديث، وقد حمّله الخصيبي العديد من آرائه ومعتقداته الدينية.

ويضاف إليها الكتب التالية التي ذكرها مترجموه، ولكنها لم تصل إلينا:

  • كتاب الإخوان.
  • كتاب المسائل.
  • كتاب الرسالة (الكتاب الأصل).

ويبدو أن كتاب الرسالة هو الذي أشار إليه ابن الغضائري في رجاله، ص 54، والعلامة الحلي في خلاصة الأقوال، ص 339 بأنه: «مقالة ملعونة». ووصفها النجاشي في رجاله، ص 67، رقم 159 الرسالة بأنها: «تخليط»، وقد أشرنا أعلاه إلى أنها في شرح عقائد النصيرية.

اختلاف علماء الرجال في مدحه أو ذمه

تضاربت آراء الشيعة في وثاقته، بين من يصحّح عقيدته، وأنه على التشيّع الحقّ فيمتدحه ويوثّقه، وبين من يعدّهُ من النصيرية، فيذمّه ويجرحه. ومن لا يعتمد روايته لجهالته، فهم على ثلاثة آراء:

(1) مذموم: وقد ورد ذمّه في مجموعة من المصادر الرجالية، منها:

  • (رجال النجاشي، ص 67، رقم 159): «الحسين بن حمدان الخصيبي الجنبلاني أبو عبد الله، كان فاسد المذهب، له كتب، منها: كتاب الإخوان، كتاب المسائل، كتاب تاريخ الأئمة، الرسالة: تخليط».
  • ابن الغضائري في (رجاله، ص 54): «.. كذاب، فاسد المذهب، صاحب مقالة ملعونة، لا يلتفت إليه».
  • وقال ابن داود الحلي (رجال ابن داود، ص 240): «الحسين بن حمدان الخصيبي الجنبلاني أبو عبد الله مات في شهر ربيع الأول سنة 358 قال النجاشي كان فاسد المذهب».
  • ويقول العلامة الحلّي في (خلاصته، ص 339): «كان فاسد المذهب، كذابًا، صاحب مقالة ملعونة، لا يُلتفت إليه». وقد اعتمد السيد الخوئي على رأي النجاشي فيه.
  • وقد ضعّف الشيخ الريشهري روايته في موسوعة الإمام الحسين (ع)، ج4/ 346 لما ذكر أخبار القاسم (ع)، إذ قال: «روي في كتاب الهداية الكبرى، للحسين بن حمدان الخصيبي … لم نذكرها في النص بسبب عدم اعتبار مصدر الرواية».

(2) مجهول: وقال الشيخ الطوسي في (الفهرست، ص 110): «الحسين بن حمدان بن خصيب، له: كتاب أسماء النبي (ص) والأئمة». وقال عنه في (رجاله، ص ٤٢٣): «الحسين بن حمدان الحصيني الجنبلاني، يكنى أبا عبد الله، روى عنه التلعكبري».

(3) ممدوح: ممن مدحه، فخالف بعض أعلام الرجال: السيد محسن الأمين في (أعيان الشيعة، ج4/ 491)، إذ يقول: «لا يبعد أن يكون أصل ذمّه من ابن الغضائري الذي لم يسلم منه أحد، فلذلك لم يَعْتَنِ العلماء بذمومه. وتبعه النجاشي، فوصفه بفساد المذهب والتخليط، وتبعه صاحب الخلاصة والقدماء، كانوا يقدحون بفساد المذهب والتخليط لأشياء كانوا يرونها غلوًّا وهي ليست كذلك. ولذلك لم يقدح فيه الشيخ، بل اقتصر على رواية التلعكبري عنه واستجازته منه … وَصُنّفَ في مذهب النصيرية واحتج لهم … وهو كذب عليه صريح؛ لما سمعت من كلامه الذي ليس لذلك فيه عين ولا أثر، وليس ذلك كلامًا مستأنفًا لقوله بعده. قال: وكان يقول بالتناسخ والحلول، مع أنه كذب في نفسه، سواء أنسب إلى النجاشي أم لا، وما كان سيف الدولة لِيَأْتَمَّ به وهو يقول بذلك، ولا غرابة في افتراء هؤلاء النِّسَبَ الباطلة إلى العلماء …».

وممّن مدحه: صاحب كتاب (الشيخ الخصيبي قُدوةٌ مُثلى يُحتذى) الشيخ حسين محمد المظلوم المعاصر، يقول في أول مقدمته: «الخصيبي (قده) هو من كبار أساطين الشريعة، ونخبة أعلام الشيعة، والمجتهدين في استنباط الأحكام البديعة، والمتبحرين في علوم آل محمد الرفيعة …».

ويشاركهما في ذلك: الشيخ محمد جميل حمود العاملي في بحث عن الشيخ الخصيبي في موقعه الرسمي: «على أنه من علماء الإمامية، وكل ما نُسِبَ إليه من معاصريه وغيرهم لا أصل له ولا صحة، وإنما كان طاهر السريرة والجيب، وصحيح العقيدة».

مَنحى الغلوّ عند الخصيبي انطلاقًا من كتبه

لم يتَّهم الرجاليون الخصيبي بفساد المذهب عبثًا، وإنما رجعوا في ذلك إلى مجموعة من آرائه ومعتقداته المبثوثة في كتبه وأدبه، ومن ذلك:

اعتقاده بأن محمد بن نصير النميري يمثل بابًا للإمام صاحب الزمان (ع)، إذ يصرّح في أكثر من مناسبة في كتابه (الهداية الكبرى)، إذ يقول:

– «حدثني أبو جعفر محمد بن الحسن، قال: اجتمعت عند أبي شعيب محمد بن نصير البكري النميري وكان بابًا لمولانا الحسن وبعده، رأى مولانا محمدًا (ع) من بعد عمر بن الفرات …»، ص 323.

– «عن أبي الحسن محمد بن يحيى وأبي داود الطوسي قالا: دخلنا على أبي شعيب، محمد بن نصير بن بكر النميري البصري، وبين يديه أبو عباد بن عبادة البصري .. فأمرنا بالجلوس فجلسنا دون القوم وكان الوقت في غير أوان حمل النخل والشجر، فانثنى أبو شعيب إلى علي بن أم الرقاد وقال: قم يا علي إلى هذه النخلة واجتني منها رطبا …»، ص 338.

– «وتوقيعاته (ع) تخرج على يد أبي شعيب محمد بن نصير بن بكر النميري البصري، فلما توفي خرجت على يد جدته أم أبي محمد (ع) وعلى ابنه محمد بن عثمان …»، ص ٣٦٧.

– «قال المفضل: يا سيدي، فمن يخاطبه ولمن يخاطب؟، قال: الصادق محمد بن نصير في يوم غيبته بصاريا، ثم يظهر بمكة والله يا مفضل، كأني أنظر إليه وهو داخل مكة …»، ص ٣٩٥.

كما أن من يقرأ ديوانه، يرى فيه عقيدته النصيرية ظاهرة على أدبه، بل إن ديوانه مشحون بعبارات الغلوّ، والدليل على اتهامه بالغلو في ديوانه في موارد عديدة، منها:

وقـالـوا:  قـتـلـناه وما كان قتله              ولا صـلـبـوه بـل شبيهًا لرؤيته

كـذاك حـسـيـنـًا شبهوه بكربلا             كـمـا شبهوا عيسى سواء كسيرته

ومن يقرأ كتاب (فقه الرسالة الرستباشية) يرى كثيرًا من شطحات الشيخ الخصيبي، والتي يظهر في عباراتها انتماءه إلى الفرقة النصيرية. من ذلك قوله، ص 108: «كان أمير المؤمنين (ع) واقفًا في منبر الكوفة وهو يقول: أنا سمكتُ سماءها، وسطحْتُ أرضها، وأنرتُ قمرها ..».

كما أن (كتاب الرسالة) ظاهر في الغلو وإن لم يصلنا، فشهادة الرجاليين حولها تعكس محتواها المغالي، إذ وصفوه بـ «التخليط» وبأنها رسالة «مقالة ملعونة»، ويمكن تأكيد ذلك من كتاب فقه الرسالة الرستباشية التي ألفها الخصيبي لتكون شرحًا لما غمض من الرسالة الأمّ، إذ احتوت على مجموعة من الشواهد التي يُستظهر منها غلوّ الخصيبي وصدق انتمائه النصيريّ.

وثاقة الخصيبي

قيّم الرجاليون الخصيبي انطلاقًا ممّا دوّنه في كتبه، إذ ذهبوا إلى انحرافه العقائدي. وعندما يحكم أحد العلماء على شخص بفساد العقيدة، إنما يعبّر ذلك عن فهم مُطْلِقِ الحكم لأصول العقيدة وأهم مسائلها، بحيث يحكم على من يخالف هذه الأصول بالانحراف أو الخروج عن حياض المذهب، فيما يرى صاحب العقيدة المحكوم عليه بأنه إنما اعتقد بما هو عليه انطلاقًا من فهمه الخاصّ واتباعًا لما أوصله إليه الدليل وبما اطمأن إليه من شواهد وأدلة. وأن صاحب العقيدة المحكوم عليه بالفساد لم يخالف بعض العلماء عِنادًا أو إعراضًا عن الحقّ، بل إنه يعتقد فيما يراه بأنه الحقّ، وأن غيره هو المُعرِض والمخالف.

ولذلك، فإنّ الحكم على فساد العقيدة لا يعني بحال فساد الرواية؛ لأنها لا تدفع الراوي إلى الكذب أو وضع الأحاديث. وهذا ما تنبّه إليه كثيرٌ من الرجاليين، إذ حكموا على مجموعة من الرواة بفساد العقيدة، ولكنهم لم يمنعوا الأخذ برواياتهم لما عُرِف عنهم بالأمانة في النقل والتحديث. ومن أبرز هؤلاء الرواة: أبو الجارود، ويونس بن ظبيان، والمفضل بن صالح، والمفضل بن عمر الجعفي، وسهل بن زياد، وغيرهم. فقد حُكِمَ على بعضهم بالغلوّ، وفي الوقت نفسه بوثاقتهم وأمانتهم في الرواية.

وانطلاقًا من هذه النظرة، لا يمكن الحكم على فساد رواية الخصيبي انطلاقًا من الحكم على عقيدته أو انتمائه الفكري. وبخاصّة عندما نحمل وصف ابن الغضائري له بأنه «كذّاب» بأنه في سياق الحديث عن عقائده، وليس في روايته للحديث، إذ يترجّح هذا المعنى بعد المقارنة مع وصف النجاشي له، الذي كان حديثه عنه بدايةً ونهاية عن عقيدته، ولم يتطرّق إلى أمانته في النقل.

ولذلك، من المهم إعادة النظر فيما يرويه الخصيبي في كتابه (الهداية الكبرى)، إذ تقتضي المنهجية التاريخية عدم رفض مروياته رأسًا، وإنما يُنظر فيها رواية رواية، ويقبل منها ما تعضّده الشواهد التاريخية في المصادر الأخرى، وكذلك ما ورد في كتابه المائدة.

بعض الملاحظات في الكتاب

 (-) معظم الروايات الواردة في فضائل أهل البيت (ع) المذكورة في كتاب (الهداية الكبرى) انفرد بها المؤلّف ولم تذكرها كتب أخرى، متنًا وصياغة، وقليل منها ما انفرد بصياغتها فقط، بحيث ورد معناها في مصادر أخرى.

(-) إن المتأمّل للروايات المذكورة في هذا الكتاب يلاحظ أنها غير منقولة نصًّا ممّا دوّنه الرواة، بل صاغها المؤلف بصياغة تتناسب وخلفيته الثقافية ومرتكزات المذهبية التي يؤمن بها، إذ ورد معظمها بصياغة رتيبة وبألفاظ متقاربة، فكان من الواضح أنها صدرت من كاتب واحد، من بداية الكتاب إلى آخره.  

(-) من الواضح أن المؤلف كان واسع الحفظ، ويبدو أنه كان يسمع من الراوي ما لديه من أحاديث، وبعد ذلك يكتبها بصياغته الخاصة. وعدم الاهتمام بألفاظ المروي وصياغته لم يكن غريبًا في ذلك العصر، إذ من عادة الرواة عدم الاهتمام بحرفية النقل، وإنما المهم المحافظ على معنى الرواية.

والنتيجة: إن مؤلف كتاب (الهداية الكبرى) لا بد من أن يعتنى بكلامه، وإن كانت صياغته صياغة المؤلف، وأن عبارة الرواية في صدر الحديث: «.. قال: الإمام الحسين (ع): يَا ابْنَ أَخِي، كَيْفَ الْمَوْتُ عِنْدَكَ؟، قَالَ: يَا عَمِّ، أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ ..» مقبولة كغيره من الكتب التاريخية القديمة.

الهوامش:

  • انظر: بحوث في الملل والنحل، الشيخ جعفر السبحاني، ج8/ 419؛ ومقدمة الهداية الكبرى، للشيخ مصطفى الحمصي، ص ٥.
  • المخلِّط أو المختلط: من الخَلْط بمعنى: المزج، والمراد منه في علمَي الحديث والرجال ثلاثة أمور: خلط الاعتقاد الصحيح بالفاسد، أو خلط الروايات المنكرة إلى غيرها، أو خلط أسانيد الأخبار فيما بينها. وواضح من سياق حديث ابن حجر أنه يريد المعنى الأوّل، وعلماء الجرح والتعديل عندما يطلقون على بعض الرواة أو العلماء بالتخليط، يشيرون بذلك إلى فساد معتقده، ولكنهم لا يحكمون عليه بالخروج عن المذهب. ولعل ابن حجر يلمز إلى فساد معتقد الخصيبي؛ لكونه إماميًّا. انظر: مُعجَمُ مُصطَلحاتِ الرّجالَ والدّرايَةِ، لمركز بحوث دار الحديث، حرف الميم / مخلّط أو مختلط؛ والرسائل الرجالية، أبي المعالي محمد بن محمد إبراهيم الكلباسي، ج٣/ ٣٨٦.
  • النصيرية (العلويون): مؤسس هذه الفرقة أبو شعيب محمد بن نصير البكري النميري (ت 270ﻫ)، من أصحاب الإمامين الهادي والعسكري (ع). وهو شخصية ضعّفها علماء الإمامية، فلا يركنون إلى ما يرويه من أحاديث، بينما يعدّه أتباعه أنه أحد كبار العلماء الروحانيين، وأنه «باب» الإمام القائم والمؤتمن على أسراره في فترة الغيبة الصغرى. وقد نظّر لفكرة الباب الشيخ الخصيبي (ت 358ﻫ)، وعنه انتشرت بين الناس. وقد سُمِّيَ أتباعه بالنصيرية أو العلوية، ويتواجد أغلبهم في تركيا وسورية. ومع وجود الفوارق بين النصيريّة والإماميّة، إلَّا أن الفرقتين تشتركان في الاعتقادات الأساسية: أصول الدين خمسة: التوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد، وإمامة الأئمة الاثني عشر، والإيمان بعصمتهم.
  • يُراد من فكرة التناسخ: انتقال الروح بعد الموت من جسد إلى آخر، وقد يكون التناسخ من جسم إنساني إلى جسم آخر إنساني أو إلى حيواني أو إلى نباتي، وقد ينتقل من إنسان إلى جماد، بحسب اختلاف أعمال الإنسان من الراحة والشقاء والخير والشر. والقول بالتناسخ لا يتنافى مع توحيد الله سبحانه؛ ذلك أن من يراه يعتقد بأنه جزء من العقاب أو الثواب الإلهي.
  • يُراد من مفهوم الحلول عند من يقول به: أن الله سبحانه وتعالى حلّ في بعض خلقه وامتزج به، بحيث تلاشت الذات الإنسانية في الذات الإلهية، فصارتا متحدتين غير منفصلتين. وهو من مصطلحات الصوفيّة.
  • رجال النجاشي، ص 159.

 

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×