أمسية محمد الماجد.. الوقت نفد.. والجمهور يطلب المزيد من نبيذ الشعر قدم جدارية مزخرفة بـ "كولاج" الطقوس والموروث وحدائق التاريخ والأسطورة

القطيف: أمل سعيد

باللهجة الأقرب إلى وجدان  سكان القطيف، مثقفهم وعامّيهم، اللهجة الحاضرة أفراحهم وأحزانهم وكأنها رديف لمحكيتهم.. وبها بدأ فارس الأمسية نصه الأول، ليقتحم القلوب المشرِعة أبوابها ويستحوذ على إعجاب الحضور الذي عبر عن ذلك بالتصفيق المتتابع، و..

إلك شوباش وشوبشنا

لمينا سواليف العشق منهم ودقينا طبر بالقاع حكوتنا

يمي نيسان.. طاساتك شفايف فرح والشربات معقودة بخصر مركيات

يبيعنّي يمي نيسان ويشرنّي

وحقهن لو طفح ميزانك بأوجاعي كيل وكيل

يزينن كفك بحنه

لَكْن أوساد غيمك ظفاير ليل مضويات لَكْن لحافهن عطال

زفت حور للجنة

كنت وياك وذيابة ومزن بالبير

 حفظتنا الذيابة وخانت المزنة

هكذا بدأ الشاعر محمد الماجد ليلته على مسرح خيرية القطيف، في الأمسبة التي نظمها ملتقى حرف.

وبانسيابية  ولسان خال من اللكنة انتقل الماجد إلى الشعر الفصيح، وقرأ، بل أنشد حتى أطرب، قصيدة “الأرض” ليُلجم بلجام السحر والجمال ما شرد من أذهان جمهوره.

عني سأطرح هذي الأرض عن كتفي

مللتُ يا ريحُ ملّ الطين فانصرفي

ما عاد عندي من خيل أُعتقها

ما لي وللخيل ما شأني وما كلفي

خمسٌ وخمسون ظلَّ العمرُ يصرفها

صرف الأباطيل بالتلفيق والزلف

خمسٌ وخمسون سرجاً كاد يقتلني

حزني عليها وحرّ الآه وا آسفي

فما السروج وقد ذلَّت أعنّتها

وما السروج وهذي الخيل من خزف.

وبعد ما يقارب الـ40 بيتا التي بنيت على بحور الخليل الفراهيدي، جاء نصه الثاني سردا/نثرا، و “كأنه هو” النص الذي اصطفاه ليكون عنوانا لديوانه الثاني، والذي صدر عام 2017م، واستطاع الماجد، الذي تلا نصوصه من الذاكرة أن يُبقي أعين الحضور متلهفة ومتابعة لإيقاع حروفه وحركات يديه.

 “كأنه هو

غير أنني لم أتبيّن بعد

لماذا كلّما رفعت قوس القهوة عالياً ثم انحنت عليه لتشق لسانه بروافد البن انحسر عنقها عن غيمة من الفيروز، ولماذا وهي المتمنعة أبداً، العصيّة على أن تكون قوساً لأحد، كانت تبالغ في الإنحناء أمام بكورته، ولم يكن حينها وهو الغرُ، البُسرُ الذي لم يترطب بعد، قد رأى غيمةً تمطر فيروزاً وضحكات ملساء فظلَّ صامتاً، يجمع بعينيه التخوم إلى التخوم، ويفكّر كيف لأنفاسٍ ذاهلة كأنفاسه أن تشقَّ كَمَرَ مجرة بأكملها!.”.

ومحاور الشاعر ومقدم الأمسية وناقده الشاعر الخنيزي  علّق على الانتقالة بقوله “أن تفتتح البيان بقصيدة عمودية تعقبها بنص شعري سردي فتلك ثالثة الأثافي عند الرهطين، ولكن من قال لسنا بحاجة لثالثتهما وأكثر كي تستتب قدور وليمتنا ودلال قهوتنا.. والليل أطول ؟، فدائمًا ما توصف أيها الشاعر – الماجد بأنك “نَفَس شعري في غاية التفرد، ولغة بارعة ما برحت تحفر بمغامرة الواثق ورؤية المقتدر، في الأسطورة التي نسميها ذاكرتنا الشعرية؛ شواكلها وتجلياتها وسرديات أماكنها وتضاريس جغرافيتها الممتدة”.

جدارية من الكولاج

قال عنها محاور الشاعر “هي قصيدة جدارية أو حالة شعرية فيها تجريب ما بعده تجريب… تنغمس فيه شاعرنا انغماسًا وترتمس فيه ارتماسًا كما لو طردًا لأدران التقليدي والشائع والمتاح والمكرور في النظم منذ زمن تلك القصائد التي خصفها الحكواتيون في “ألف ليلة وليلة” في سعيهم لتعظيم قَصَص الليالي كما يُخصف كل ملموس وفي المتناول من الحاجيات، بحياء مخدوش تجاه الشعر… وصولًا إلى الغالب من القصائد التي تُنظم في زمننا هذا بذات الحياء المخدوش المتوارث من جيل لآخر، كالسراج أو المشعل، أناء الليل، بل وبلا مدعاة، أطراف النهار أيضًا في هذا الرهط من الناس تقول فيهم أيها الشاعر : “… صلِ لهم إنهم تائهون / طيبون…”

أما نص الجدارية؛ فهو عمل شعري تشكلي متخم بكولاج من اللغة العابرة للطقوس والتاريخ والأسطورة.. 

ترجّلْ

عليكَ من الشِّعر ما تستحقُ ترجّلْ

فهذي القصيدةُ منذ البسوس

ولا خيلَ فيها

وهذي طرائدُها في الجبال

ولا ذئبَ إلا أخوك المهلهلْ

ترجّلْ

وقُل للقصيدة

يا أختُ ماذا على الجَمْر

إن مسّه طارقُ الريح ليلاً

وماذا عليَّ وقد هاجني مطرٌ:

دونكَ البابُ، بابُ القصيدةِ، فادخل مُطِرتَ

وعرّج على نار ليلى

تعللْ

ألا قيسَ في الدارِ؟

لا شِعْرَ تحت الخباء؟

ويا ليلُ .. يا ليلُ

إني حملتكِ والشِّعرَ حمْلَ الهوادج

وارتبت في النوق

حتى لوين ذراع العشيِّ

وأردفنَ جمراً

وكنتِ على الجَمْر

أمضى من النار نصْلاً

وأعجَلْ

فهلّا شهرتِ لنا مطلعاً من الشِّعْر نغمد فيه الكلامْ

وهلّا نصبتِ لنا شَرَكاً من يمامْ

وطار اليمامْ

غناءً يهيج حتى رخام المقابر

طار اليمام

تحدث أبوك السحاب

-وماذا أقول؟

-قصيدةُ عشقٍ

دِلالٌ من الشِّعر

إمّا جرت في عروق الربابة

فاض (الحجازُ) على ضفتيها

فأبكى وأثكَلْ

مطالعُ تضربُ أوتادها في العراء 

ومسرى ضباءْ

غيومٌ تعاودني كلّما

كسرتُ جراري على بئر ماء

بروقٌ تئنّ

وعشقٌ مزمّلْ

كأن شتاءَ القصيدة باكَرنا بالبديع

وأنّ جناساً أتانا محمّلْ

يعجلون باللسان

وفيما كان الماجد ينتقل بين مقطع وآخر من قصائده كان هناك من بين الجمهور من يسبقه بنطق الكلمات، والتفت إليهم الشاعر غير مرة ليوميء إلى بعضهم بابتسامة تعبر عن سعادته بوجودهم، إلى أن أنهى جداريته، وبدأ في قراءة نص شعبي..

صُب ْيحَمود

قاعك خيل وراسك بس زلم تنخاك من تميل

بالك ما تصب بارود

ظلك علجمر تكاي هوازن بيك متحزمات وخطارك من الجارود

وعلى كيفك.. وحلاة الكيف لا ناقد ولا منقود

عركة شيح وصيحة هيه وزم نهود

وشرهة غيم ضحكة سيل شبعانة برد ورعود

تسلم الدلة وترد ردود

دقة هيل وريحة عود

توقف الشاعر عن الإلقاء والتفت إلى طفلة في الحضور وقال “هنا في القاعة من تقرأ هذا النص أفضل مني”، ثم دعاها وأقبلت عليه وجلست بجواره وأكملت النص ليتفاعل الجمهور معها كما فعل مع الماجد.

كانت الطفلة دانة زكي اليحيى وأسرتها يرافقون الماجد في عزفه المتنوع، في انخفاضه وعلوه (علمت صُبرة فيما بعد، أن ثمة روابط صداقة بين العائلتين).

قراءة نقدية

كان مقرراً للأمسية أن تكون حواراً حول الشعر وقضاياه، وأن يتولى الشاعر غسان الخنيزي محاورة الماجد، وهكذا قال في مقدمته “سنمازج في هذه الأمسية بين القراءة الشعرية والحوار معها وحولها، وإذا كان حوارًا حول قضايا الشعر فالقصد بطبيعة الحال قضايا الشعر عند الماجد محمد”، إلا أن ما حدث لا يشبه الحوار المتعارف عليه، حيث تقاسم المُضيف والضيف الوقت والكلمة، غير أن الشاعر الخنيزي بدا وكأنه يتعرض لشعر الماجد بقراءة نقدية محضة، خلت تقريباً من الأسئلة أو استفزاز الأجوبة عند ضيف الأمسية.

وبرغم ذلك فقد كانت قراءته النقدية التي تلاها بين فقرات النصوص الشعرية جديرة بأن يخصص لها ليلة وحدها.

يقول الخنيزي في بعض مداخلاته واصفا قصيدة للماجد “نرى أيضا التوسل بآليات القول الشعري بين الوصف والاسترسال فيه… ومن ثم الالتفاف بالقول إلى صيغة مُخاطبِ مجهول، هو في الغالب تجريدك الشاعر لـ “أنا” أخرى! تمتشقها من عين ذاتك… لتقارعها الحجة بالحجة، وتضرب لها مثلًا إثر مثل، في مرافعةٍ مدبجة ومتسامية حول موضوعة “الشعر”: ما كنهه ومقصده؟، مستحضرًا أساطير الشعر العربي منذ عصر امريء القيس وقيس بن الملوح والسليك وأحمد شوقي والجواهري وأدونيس، ومحمود درویش، وقاسم حداد، ومظفر النواب بفصيحِهِ وشعبيّه… وصولًا لذلك الصوت بن السُّلكة… حتى عصر “الحداثي” الذي كالسهم اخترق دروع كل من ذكرنا من الشعراء رجوعا إلى لثغته العارفية الأولى أقصد الصوت الذي يحق لنا أن نتباهى به، الذي شاعت شهرته كـ ” سيد البيد” أو هو كما يحلو لك ، يا شاعرنا أن تصفه بـ أبانا طي الغيب: “الثبيتي، محمد ابن عوّاض”.

بمثل ما بدأت

انتهت الأمسية الشعرية لكن حماسة الحضور كانت تستزيد الشاعر فلا يملك إلا أن يجيب، إلى أن قال الوقت كلمته فترجل فارس الأمسية عن المسرح وودع جمهوره من شعراء وأدباء ومثقفين ومتذوقي الشعر بمثل ما استقبلهم به، ومن بينهم عضوا مجلس الشورى السابقين محمد رضا نصر الله والدكتور أحمد الشويخات.

ثم قال “كانت الأمسية، بالنسبة لي، رائعة واستثنائية، وأرجو أن تكون كذلك بالنسبة لكم”. 

 

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com