مطلق العنزي يقدّم درس الخبرة: لا عبودية في الصحافة سرد القصة لـ "صُبرة".. من ولادته في برّ الشمال.. إلى منصب "نائب رئيس التحرير"

إعداد: أفراح آل شويخات، جود الشقاق

تصوير: بتول الشاخوري، سمر حبيب، زهراء الخلف

تحرير: ديسك صُبرة

وُلد في برّ الشمال السعودي، ونشأ في وسط العاصمة، واستقرّ في شرقيّ الوطن.. هذا هو ملخّص سيرة الحياة.. أما ملخّص سيرة المهنة؛ فيقول كلاماً آخر؛ فقد جاء مطلق العنزي إلى الشرقية من أجل دراسة الإدارة الصناعية في جامعة “البترول والمعادن”، أواخر السبعينيات، ولكنّ الصحافة أغوت حماسة شبابه، ليخرب بيتاً “تعليمياً”، ويبني ـ بدلاً عنه ـ بيتاً “مِهْنِياً” في صحيفة “اليوم” التي عمل فيها 38 سنة متواصلة..!

مطلق بن حديد العنزي، البدوي النابت من مروءة ابن الصحراء، المعجَب بالحضارة، الناحل الذي بدأ “خرابيشه” الصحافية الأولى بالبحث عن احتياجات الناس، من صحيفة “الرياض” قبل “نزوحه” إلى الشرق. ثم استمرّ على منوال صفحة “اليوم والناس” التي كان يُشرف عليها عبدالله الدبيسي في صحيفة “اليوم”.. وهكذا تسلسلت الأحداث والتنقلات حتى تقاعد وهو في منصب “نائب رئيس تحرير”..!

وُلدتُ في برّ الشمال

القصة طويلة، طويلة جداً.. لكنّه منح وقتاً لـ “صُبرة”، مساء البارحة في لقاء مفتوح مع العاملين فيها؛ وحاوره الزميل حبيب محمود. وقد اتّسع الوقت ـ نسبياً ـ للحديث عن بعض تجربة الركض الصحفي، والقيادة الصحفية، وأخيراً؛ التدريب في الإعلام، وبالذات التركيز على أخلاقيات المهنة.

وهكذا الْتهم الحديث الوقت.. حتى لامس التأخر، لم تكن هناك تفاصيل عن حياة الصحراء، سوى قوله “وُلدت في البرّ”، لكنّ هناك بعض التفاصيل عن حياة الرياض، الدراسة إلى الثانوية، والمحاولات الأولى في صحيفة “الرياض”، ثم مكتب مجلة “الشرق” التي نشر فيها تقريراً عن مضيفي الطيران.. ربما حرّكت أسئلته مشاهدته المضيفين ـ والمضيفات ـ في رحلة الطيران الأولى له، من الرياض إلى مطار الظهران.. ومطلق العنزي يرى أن الصحافة هي “مجموعة إجابات عن أسئلة”. ولذلك “عليك أن تعرف من تسأل قبل أن تسأل”.. إذا لم تعرفه “سوف تكون مادتك الصحفية سطحية”.. هذا هو الدرس الذي مرّره للزملاء في “صُبرة”، وأضاف “حين تعرف من تسأل أولاً؛ فسوف تكون أسئلتك عميقة، وكذلك مادتك”..!

معاهدة السلام بين نيلسون مانديلا وآخر رئيس أبيض في جنوب أفريقيا دي كليرك

ابك يا وطني الحبيب

جودة اللغة مهمّة عند الصحافي، لكنّ هناك ما لا يقلّ أهمية، هو ثراء الجانب المعرفي، والاطلاع في ثقافات متعددة. كلُّ شيء يعرفه الصحافي يمكن أن يكون مفيداً.. ومن تجربته يتذكر العنزي كيف أن رواية قرأها وهو طالب ثانوية؛ أمدّته بأفكار صحافية مفيدة حين أعدّ تقاريره الصحافية عن جنوب أفريقيا بعد سنوات.

عانت جنوب أفريقيا من سياسة طويلة الأمد، الفصل العنصري. وخاض السكان الأصليون السود صراعاً طويلاً مع الأوربيين البيض الذين استوطنوا البلاد، وانتهكوا حقوق السكان. وانتهى الصراع إلى مفاوضات بين عامي 1990 و1993م، ثم اتفاقية سلام. مطلق العنزي زار جنوب أفريقيا بعد فوز نيلسون مانديلا بالرئاسة، ودخول البلاد في مرحلة جدية.. وجديدة.

كان ضمن إعلاميين كُثر من جميع أنحاء العالم.. وحتى ينجح؛ كان عليه أن يتعرّف إلى البلد “كنتُ أريد معرفة أمرين: عقل جنوب أفريقيا.. وروحها”.. وهكذا قرأ كتباً، وتجوّل في بعض البلاد، وحين عاد إلى الدمام، وشرَع في إعداد تقاريره عن الدولة التي خرجت من أزمة سياسية إنسانية طويلة؛ تذكّر الرواية التي قرأها قبل سنوات.. فاستعان بخيالها ولغتها وإيحاءاتها..

رواية Cry, The beloved Country لـ ألان باتون

رئيس القسم السياسي

بدأ مطلق العنزي العمل في صحيفة “اليوم”؛ مراسلاً متعاوناً، لكنّه طوّر من مهاراته، حرص على القراءة، والاطلاع على الأساليب والطرق.. استفاد من زملائه، وبعد انتظامه؛ أعدّ صفحات أسبوعية عن التعليم الجامعي.. وقتها كان طالباً جامعياً.. وعلى مقربة من احتياجات زملائه.. ثم تطوّر، ليجد نفسه مكلّفاً رئاسة القسم السياسي في الصحيفة..!

كانت “ورطة” بالنسبة له.. و “فرصة” أيضاً. كيف يدير قسماً لا يفقه فيه الكثير..؟ قال لزملائه أنا رئيسكم إدارياً، وأنتم المتخصصون.. وقد يكون في هذا التفكير الإداري وجاهة، لكنّ فيه مشكلة.. لا يمكن للرئيس أن يكون أقلّ فهماً من زملائه، خاصة مع قسم “حساس”.. هنا ظهرت الحاجة إلى التثقيف الذاتي، ليس في الشؤون السياسية فحسب، بل أيضاً في مهارات التحرير..!

القسم السياسي مدرسة في التحرير.. أغلب مصادر المواد السياسية تصل إلى الصحف معدة من وكالات أنباء عالمية، وأغلب الوكالات حريصة على التزام الصحافة بحرفية عالية، وتحرير عالي الجودة، وحيادية. هنا يمكن التجريب والتدريب عملياً.. لكنّ الأمر يحتاج إلى “تثقيف”.. وقد وقعت عيناه على كتاب باللغة الإنجليزية عنوانه “الكتابة الإعلامية الحديثة”.. وهنا بدأ درسٌ صعب.. ومفيدٌ جداً.

لم تكن إنجليزية مطلق العنزي كافية لفهم كتاب يتحدث عن الأساليب والقواعد.. ولا أحد يمكنه التبرع بترجمة كتاب.. ولا حلّ إلا الترجمة باستخدام قاموس.. صفحة واحدة تستغرق ساعات.. وهذا ما اضطرّ إليه “مطلق”.. كلمة كلمة.. جملة جملة.. بدأ يعرف القواعد: من، ماذا، أين، متى، كيف لماذا؟

راح يطّلع على الأساليب، على مفاتيح الإخبار، على علامات الترقيم.. المطلوب هو القدرة على التحرير العفوي الذي لا يعتمد فيه “المراسل” على “الديسك” في كلّ صغيرة وكبيرة تُكتب.. واكتساب المهارة لا يأتي بقراءة كتاب، يحتاج إلى الدّربة والمِران والممارسة.. والمناقشة والأسئلة..!

تهذيب الأيديولوجيا

لا أحد ينمو فوراً.. الرحلة طويلة، وأصعب ما فيها هو التزام الأخلاقيات، والمحافظة على المباديء.. “في السبعينيات كان الصحافيون أكثر احتراماً للمباديء والأخلاقيات”.. يضيف “حتى المؤدلجون كانوا يهذبون أيديولوجياتهم لصالح قواعد المهنة”. في تلك الفترة كانت الأفكار متعددة.. “وقد أعجبتني بعض مباديء الاشتراكية” في جانبها الاقتصادي.. أما “جانبها العقائدي فكنتُ أرفضها.. كأنه قال البارحة إنه كان “خليطاً من الالتزام الديني وما يُشاع عن عدالة الاشتراكية”. لكنّ هذا النمط من التفكير لم يستمرّ. في الوقت نفسه؛ حافظ على مبادئه، في شأن النظرة الإنسانية. وحين تحتدّ الحيرة؛ يعود إلى “قواعد المهنة”..!

خليل الفزيع

خليل الفزيع

حين كلفه رئيس التحرير خليل الفزيع الإشراف على القسم الرياضي؛ قال للعاملين في القسم “أنا لا أفقه في الرياضة مثلكم، ولكنني لا أطالبكم إلا بالتزام قواعد المهنة”..!

كما كلفه الرئيس بالإشراف على القسم الثقافي الذي كان يديره المرحوم شاكر الشيخ.. وهنا وجد نفسه في مكان لا يناسبه، فاتفق مع الشيخ على أن يُقنع رئيس التحرير بالعدول عن التكليف.. وهذا ما تم.

حبيب محمود

الصحفي المثقف

يؤمن العنزي بالتخصص في الصحافة.. “على كل صحفي أو من يريد أن يمتهن مهنة الصحافة أن يكون ملماً بالعلوم، كعلوم اللغة، الصحة والطب، الهندسة، السياسة، علوم الاتصال والصحافة”. وينبّه “أخطر شئ على الصحفي هو الجهل.. وجهله شخصياً هو المهدد الأول له.. الجاهل لا يعلم كيف يكون عدواً أو صديقاً للآخرين”.

المرحوم شاكر الشيخ

وهنك ثلاث مستويات من المعرفة ركز عليها العنزي:

١ـ معرفة عامة كثيفة.

2 ـ معلومات متخصصة كثيفة.

3ـ معرفة الخبراء.. يجب على الصحفي أن يكون خبيراً ليطرح أسئلة عميقة وليست سطحية.

لا للعبودية

وقال “العمل تحت الضغط يُظهر الإبداع”، وعرّف الصحافي الجيد بأنه ” من يستطيع تحويل موضوع عادي إلي موضوع مثير”.

من أجل أن ينجح الصحافي فإنه يحتاج إلى أن يعمل في بيئة “تحافظ على كرامته، وتقدم له الراتب المناسب.. وتدربه تدريباً جيداً، وتضعه في موقع عادل.. ثم تحاسبه فيما بعد”.. وعلّق على جملته الأخيرة بقوله “لا للعبودية.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×