[4 ـ 4] الأمريكي الذي قرأ جلجامش.. مفهوم الأسطورة الشخصية

محمد الماجد

هذا هو الجزء الأخير، الجزء الذي سأفصح فيه عن السر الذي احتفظت فيه هذه الرواية بطاقتها حتى آخر متر قبل خط النهاية، لأعود إلى ما ذكرته في الجزء الثاني من هذا المقال عن سرِّ الميتوكوندريا ذات الطاقة المتفجرة، فإذا كان من شكل آخر للميتوكوندريا يمكن أن يأخذ طريقه إلى الكتابة متسلّلاً إلى جسد هذه الرواية فهو بالتأكيد سيكون على هيئة (الترجمة)، فقد حظيت هذه الرواية بحضور أربعة مترجمين: ديفيد بوكاشيو، رجب سمعان، سوزان بوسن، جورج فاتكا، ومقتطفات من ترجمات لمتون شعريّة وفنيّة: جلجامش، “رسالة زوجة تاجر الهند”، رامبرانت، بيكاسو، أغنية “لوسيل” لكيني روجرز، وهناك أيضاً الأسلوب الذي كتبت به الرواية، هو الآخر، ودونما أي حاجة لأي فحص مخبري، بدا دائماً وكأنه بحاجة إلى ترجمة ليعود من هجرته الطويلة، تلك التي قضاها موزّعاً بين أروقة جامعة ستانفورد وفهارس الموسوعات، إلى وطنه الأم: اللغة العربية. 

وهنا بالتحديد تأتي وظيفة الميتوكوندريا، أو لأقل عُضيَّات الترجمة في صورتها الخفيّة وهي تدير الحياة الأكثر سريّة تحت جلد الرواية،  تلك الحياة التي تحاول أن تعبّر عن روح العالم السارية في كل جزء من الوجود، أو “الترجمة الكونية” بحسب رجب سمعان، لتواصل هذه (الترجمة)، بوصفها بطلة الرواية المطلقة، فتوحاتها في هذا الحقل أيضاً، بما فيها تلك الترجمات الروحية لبائع الورود جورجيو غرزياني فيما يختص بألوان ووظائف الزهور، بعشقه للأم صوفيا، بالسر من وراء ابتسامة الشاب الكلداني الدائمة، بحلم ديفيد الطفولي والعميق، بالإشارات الميثولوجية، بالتاريخ المؤرق لعائلة آل بوكاشيو، بالحقد، والفقد، والوفاء، والتوق، والحب، والكراهية، وحس الدعابة، والصبر، والخداع، والشك، والشغف، والمباهاة، والكرم، والقتل، والتضحية، والمعرفة، وسوء الفهم أيضاً.

وفيما كنتُ أخمِّن بأن الشويخات قد احتفظ ببعض المفاجآت للأمتار الأخيرة من الرواية، كان ديفيد قد قُتِل في كمين للمقاومة العراقية، ورجب سمعان قد مات غرقاً، حدث هذا قبل أن تعود الميتوكوندريا بأصابعها الميثولوجية للعمل مرة أخرى: يظهر ديفيد فجأة، وينجح في الالتقاء بطائر الشقراق، فيستعيد نبوءته الضائعة، وفي الضفة الأخرى، يعود رجب سمعان من الموت في بحر المنامة ليظهر فجأة في سان فرانسيسكو أمام منزل ديفيد وفي يده تمثال لجلجامش على شكل هدية، حدثان لا يمكن قراءتهما إلا من خلال التأويل الميثولوجي للموت والبعث وطريقة عمل الأساطير.

وسأعود دائماً لكويلو ومفهوم (الأسطورة الشخصية) لمزيد من الفهم، فإذا كان تحقيق الأسطورة الشخصية يعتمد بشكل غير قابل للتفكيك على مفهومين: روح العالم، وفهم الإشارات، فأعتقد أن منهج كويلو هذا هو أكثر ما يحتاجه قارئ رواية الشويخات ليفسر أحداث الرواية من جهة، ويحقق أسطورته الشخصية كقارئ من جهة أخرى، فضربة مزدوجة من هذا النوع ستحيل الرواية إلى كرة ليِّنة من صوف التريكو في يده، يستطيع معها استعارة مهارة الأم صوفيا لحياكة ما يجده ضرورياً لتدفئة جسد الرواية من هبات صقيع محتملة ستلامس جلد الرواية دون أن تنفذ إلى مسامّها، هبّات عادة ما تحمل تأويلات نيئة لقراء غير معنيين بحرارة السّرد، وليس لديهم أي معرفة تفصيلية بالتريكو ومعجزات الأم صوفيا.

سأحاول الآن أن أستلَّ خيطاً من كُرة الصوف، خيطاً واحداً، وبسنّارتَي كويلو الذهبيتين: (روح العالم) و (فهم الإشارات)، سأحاول حياكة التأويل الخاص بي، سأقوم بذلك فيما يختص بهذا المقطع الذي استعاره الشويخات من ملحمة جلجامش:

“في مدينتي،

يموت الإنسان مثقل القلب بالهموم

ها أنا ذا أنظر من فوق الأسوار

فأرى الجثث تطفو على النهر”

هذا اللوح الأكادي يشكل مستعمرة كاملة من الميتوكوندريا، معمل ضخم من الطاقة، وقد تمّ زرعه في أحد جيوب الرواية بذكاء، إلى جوار مقاطع وجيوب أخرى بالطبع، ولكن المهم أنه منحنا فرصة لتفسير بعض أحداث الرواية، وكأنه مفتاح رموز سرّية، أو لوح من الإشارات الغيبية، وهو التفسير الذي ربما سيكون مفاجئاً حتى لكاتب العمل، وقد قمت بتصحيف بسيط لما ورد في هذا اللوح بما يتوافق ومناخ الرواية:  

“في مدينة المنامة،

يموت رجب سمعان مثقل القلب بالهموم

كومار ينظر من فوق مكتبه في الدور الثاني من فندق (نُزُل القمر الخجول)

فيرى جثة رجب تغرق في الخليج”

لا يوجد لدي أي تعليق، فقد نفذت كرة الصوف، وأعرف أن الميتوكوندريا ما زالت قادرة على إنتاج الكثير منها، الكثير مما لا يمكن معالجته على طريقة الفوتوشوب، أو بمجرد تغيير كلمات أو حروف في مقطع من ملحمة، حسبي أنني أعرف هذه الحقيقة، لذلك سأحاول أن أنهي رحلتي الممتعة مع (أمريكي الشويخات)، بملاحظات تتعلق بما أسميه أنا -تجاوزاً- بأخطاء تحريرية (ضمنيّة) لا يمكن لرواية بمثل هذا الذكاء أن تقع فيها، الخطأ الأول هو عندما ذكر (الراوي الكلّي) اسم ديفيد بدلاً عن اسم هنري بيكر في أحد مقاطع الرواية، ولمن يعرف العلاقة (المتوترة) بين الرجلين، سوف يعرف أن هذا الخطأ – فضلاً عن الإرباك الذي أوقع فيه القارئ – لن يتسبب سوى في سكب المزيد من الزيت بينهما، أما الخطأ الآخر فكاد أن يشعل غيرة الأم صوفيا من زوجة ابنها لورا، حين ذكر الراوي اسم لورا خطأً، مرتين، بدلاً من اسم الأم صوفيا في سياق كلامه عن عشق بائع الورود جورجيو غرزياني للأم، أخطاء كان من الممكن أن تتسبب في أكثر من حادث مؤسف مع فريق من قراء الرواية الغير معنيين بتصحيح هذا النوع من الأخطاء، أو بالقفز عليه، دون تسجيل موقف يتعلق بطريقة صف الأسماء والتحقق من أداءها لأدوارها بشكل صحيح.

سكّين الأخطاء التحريرية (الضمنية) للأسف ستستمر في تقطيع لحم الرواية مثل قطعة ستيك فاخرة، لا بهدف تقديمها للقارئ، ولكن لهدف التقليل من المحتوى الدهني للوجبة، وبما أن المؤلف ليس من أهدافه الاهتمام بالوضع الصحي للقارئ، سيبدو عمل السكين هذا دائماً مضراً بصحة الرواية نفسها، وهنا سأعود للكلمة الرئيسية: (الترجمة)، بوصفها البطلة المطلقة للرواية، وأخشى معها أن يكون حدسي فيما يختص بمسئوليتها عن الأسلوب الذي كُتبت به الرواية، قد انتقل إلى روح الرواية أيضاً، وسأضرب مثالاً، فتعبير ملتبِس مثل “السكان المحليين”، فيما يختص بالعراقيين، قد ورد على لسان ديفيد بوكاشيو وبشكل مبكر ومتوقع أيضاً بوصفه أمريكي، هذا مفهوم جداً، ولكن أن ينتقل هذا الوصف من لسان ديفيد إلى لسان (الراوي الكلّي)، ويقوم بتكراره وكأنه مقطع من نشيد وطني، فهذا سينقل الرواية بأكملها من حاضنة (الترجمة) إلى حاضنة (الوصاية) بالمعنى الثقافي، إذ لا يمكن لــــ (الراوي الكلي) أن يقدم على مثل هذا الإجراء دون أن يكون واقعاً تحت تأثير الدعاية أو مدفوعاً بمواقف أيدلوجية مسبقة.

ولا أدري، حتى لحظة كتابتي لهذه النهاية، ما إذا كان هناك من علاج يمكن وصفه لتخليص معدة الرواية من هذا الحامض، الأمل وحده يمكنه القيام بذلك، وإذا كان من الجائز القول بأن تشكّل هذا الحامض لم يكن سوى نتيجة لخطأ (تحريريّ ضمنيّ) وقع فيه (الراوي الكلي) بسبب تداخل أصوات بين الرواة، أو سهو، أو سبق لسان لا أكثر، فمن المتوقع أن تتعافى الرواية تماماً، غير أن الأمر لن يقف عند حدود حامض يمكن طرده بعصارة من الأمل، فبعيداً عن كل ما له علاقة بالأخطاء التحريرية، دائماً كان لدينا مشكلة تتعلق بــــ (حيادية) ديفيد المفرطة تجاه ما يقع على العراقيين من ظلم، وإذا كنت قد نصحت ديفيد سابقاً بقراءة (الخيميائي)، فإني سأعود لأنصحه الآن بقراءة (تواريخ الانشقاق) لمواطنه اليساري المعارض تشومسكي، فربما أعطاه هذا فرصة للهروب من مربع الحيادية، وهناك أيضاً فرصة (الوساطة الإلهية) التي وهبت رجب سمعان حياة أخرى، لا لشيء، إلا لكي يهدي روح ديفيد على شكل تمثال   إلى زوجته لورا، وكأنه يقول لها: لا تنتظريه أكثر، حسناً، أنا أيضاً أقول لـــ الزوجة الوفية لورا: لا تنتظريه أكثر، وأقول لـــ تشومسكي: مازال هناك متسع لرفيق مؤمن، لم تنته الرواية بعد، وما زال في وسع ديفيد أن يفعل ويغير الكثير.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×