[3 ـ 4] الأمريكي الذي قرأ جلجامش.. النصيحة الأخيرة لـــ ملكي صادق

محمد الماجد

ربما كان على ديفيد بوكاشيو، وقبل ذهابه إلى العراق بعيد سقوط بغداد في العام 2003، أن يقرأ رواية “الخيميائي” لــــ باولو كويلو، الرواية التي صدرت قبل ذهابه إلى هناك بأكثر من عقد، فقد كان لديه متَّسع من الوقت، فحديث كويلو عن مفهومه الخاص لـــ (الأسطورة الشخصية)، ربما أفاد حفيد جيوفاني في إعادة وضع نصائح صديقه رجب سمعان على المسار الصحيح، وربما كان عليه أن يستمع بإنصات لما همس به العجوز ملكي صادق في إذن سانتياغو بطل رواية كويلو “بمقدور الراعي أن يحب الأسفار ولكن دون أن ينس نعاجه اطلاقاً”، فلم يكن لدى حفيد جيوفاني سوى نعجتين: الترجمة، وأمنية تأليف كتاب، وقد خسر الاثنتين، ولكن كان عليه في المقابل، وكتعويض، أن يحقق ما هو أهم بحسب كويلو وهو (الأسطورة الشخصية)، وهنا تأتي نصيحة ملكي صادق الثانية “لا تنس ليس الكل إلا واحداً أوحَداً، ولا تنس لغة الإشارات، ولا تنس خصوصاً الذهاب إلى نهاية اسطورتك الشخصية”

هذه النصيحة الأخيرة لـــ ملكي صادق لا تعني ديفيد بوكاشيو فقط، بل قارئ رواية الشويخات عموماً، فليست أبعاد روايته الفاتنة بانشطاراتها الزمانية والمكانية إلا كلّاً واحداً، وليست الإشارات المبثوثة بين أدراجها إلا مفاتيح لربط ما يبدو للوهلة الأولى منفصلاً، وهو ليس كذلك، وبعيداً، وهو ليس كذلك، ودخيلاً، وهو ليس كذلك، وغرائبياً، وهو كذلك بالتأكيد، كضرورة فنية، تماماً كمن يهب الأسد جناحين مذهَّبَين من الفِلْس ليطير بهما، أو كمن يطفئ النار بخرطوم طويل من الفراش، هكذا هي الرواية عندما تهم بمغادرة الواقع، خاصة وأن رجب سمعان، أو (أيقونة الفشل في هذا العالم الجميل) كما يصفه ديفيد، غالباً ما كرر كلام ملكي صادق، ولكن على طريقته الخاصة “ليس هناك بعداً واحداً محصوراً لأي حكاية، وأن ما يصنع السَّرد هو السياق، والغرض، والأسلوب … وما يُذكر، وما يُغفل في الحكاية، هي في حد ذاتها أمر لا نهائي، ولا حدود له، وذلك ما يجعل السَّرد فنَّاً متعدد الأبعاد”.

ربما شكل هذا الحديث عن ملكي صادق ذريعة لحديث آخر أكثر إلحاحاً وهو الإشارات في رواية الشويخات، وسأعود هنا لتوظيف مثال (سانتياغو)، غالباً لهدف مسبق، الغرض منه وضع اللائمة على (ديفيد بوكاشيو)، وبشكل يُعفي الشويخات من المسئولية عن كل الأذى الذي تعرّض له ديفيد، والأهم، اعفاءه من ملاحقة عائلة جيوفاني له بقصد محاسبته، فكلا المؤلفَّين، أعني كويلو والشويخات، وضع بطلَيه، سانتياغو وديفيد، على التوالي، في صورة ما يمكن أن يكونا عليه في المستقبل، حتى يتسنّى لكل منهما تحقيق (أسطورته الشخصية) بحسب مصطلح كويلو.

 حسناً، لنبدأ في شرح المتلازمة الروائية: سانتياغو يضع حلمه في عهدة عرّافة غجرية، يغار ديفيد فيضع حلمه هو الآخر في عهدة العرافة هيلين، يتعرف سانتياغو على ملهمه ملكي صادق، فيتعرف ديفيد على ملهمه رجب سمعان، سانتياغو يُفصح عن حجرين كريمين في حوزته هما أوريم وتوميم، وديفيد يفصح في المقابل عن حجرين من نمط آخر هما الديكاميرون وجلجامش، فاطمة، حبيبة سانتياغو، تتفهم موقفه من رحلته الطويلة “أريدك أن تتابع طريقك باتجاه ما جئت تبحث عنه”، وديفيد ينقل عن زوجته لورا إعادة صياغة لكلام فاطمة “كانت لورا تعرض عليَّ أن أعيش كما أهوى بعد أن رأت ميلي إلى السفر”، الرجل الإنجليزي يحدث سانتياغو عن “اللغة الكونية”، ورجب سمعان يحدث ديفيد عن “الترجمة الكونية”، سانتياغو يستمع لتقرير جمّال القافلة حول القَدَر “إنّ من يلتزم عبور الصحراء لا يمكنه العودة إلى أعقابه … كل شيء مكتوب”، ولا يتأخر ديفيد في التوقيع على تقرير الجمّال “كل شيء بدا مرتبا كي أكون في متاهة العراق”، الخيميائي يحدث سانتياغو عن “لغة العالم”، ورجب سمعان يحدث ديفيد عن “الحضور في العالم”، وأخيراً، ينصت سانتياغو إلى تفسير حلمه “يجب أن تذهب إلى أهرامات مصر… وهناك سوف تعثر على الكنز الذي يجعلك غنياً”، فيما ديفيد كان مشغولاً بالحفر تحت اساسات مدينة أوروك فيفاجأ بسطور من ملحمتها الخالدة “… وعند الأسس والقواعد انظر، لتعثر على صندوق خشب الأرز، حيث يرقد لوح المآثر والأسرار اللازوردي، أدر مقبض الصندوق البرونز، اكشف غطاء أسراره..”، ينتهي الأمر بسانتياغو إلى العثور على الكنز، وينتهي الأمر بديفيد جثة طافية على نهر الفرات، أو هكذا بدا قبل أن ينقذه الشويخات من كمين المقاومة العراقية ويبعثه للحياة من جديد، بما يوحي بأن الشويخات فعّل خاصية (الوساطة الإلهية) التي اقترحها بارغاس.

كل ما ذكرته حتى الآن بخصوص التقاطعات المرورية الحادة بين سيرة سانتياغو وديفيد لا تثبت سوى شيء واحد، وهو أن الأثنين يعيشان ذات العقيدة بخصوص مفهومها للحياة، وعلاقتهما بالوجود، وأيضاً، بعمق معالجة كل من كويلو والشويخات لسيرة البطلَين، وفيما عدا ذلك، سيخطئ القارئ خطأً فادحاً في فهم هذه المقالة، إذا ما ظنها اتهاماً للشويخات بالتأثر برواية كويلو، فقد أنجز الشويخات عملاً يتسم بالجدية، والثقل المعرفي، والتناغم، والإبهار، ولكن على طريقته الخاصة، زيادة على أن الشفرة الوراثية لمولوده (الأمريكي) لا تشير لوجود توائم له في الجوار، ولا في أي مكان آخر، أقول ذلك، لأن عمل الشويخات هذا لا يحتمل أي شك أو ريبة، ولأن ما ذكرته عن (المتلازمة الروائية)، ربما كان سيفضي بالقارئ، لو لم أضطر إلى مثل هذا التوضيح، إلى استنتاجات خاطئة، خاصة وأن مفاهيم مثل العظة، وأساليب تطوير الذات، والجهاد الحسن، ومبادئ اللغة الكونية، التي كانت ترشح من جسد (الخيميائي)، لم يكن (الأمريكي) ليلاحظ أيَّاً منها، سوى تلك المتعلقة باللغة، لتتفق الروايتان، ربما بمحض الصدفة، وكلٌّ من زاويتها الخاصة، على اعتماد صيغة اللغة الكونية كمبدأ يمكن من خلاله تفسير، وإعادة توجيه الأحداث الشخصية والتاريخية الكبرى.     

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×