[مقال] سالم الأصيل: المُفَحِّطون ومناوئوهم. ميلان كونديرا: إنني هنا.. أسمعكم أيها الصُّمان...!
سالم الأصيل
“إنني هنا، إن لم تكونوا ترونني، فاسمعوني، وإن لم تكونوا تسمعوا، فها أنا أُسمِعُكم أيها الصُّمَّان”.
هكذا يبدو لسان حال ذلك المُفَحِّط الذي يحرق إطارات سيارته باحتكاكها ودورانها العنيف على الإسفلت حتى الذوبان والاحتراق النهائي على الأرض. الأرض التي لا تكاد تسمع دبيبه وهو يدبّ عليها كنملة، أو هكذا يشعر، وكذلك الشاب الذي يعبث بمحرك سيارته حتى يمسي مروره مسموعًا بوضوح، وكأنه متنبي هذا العصر، مُنشدًا: وأَسْمَعَتْ (تَخَامِيْسِي) مَنْ بِهِ صَمَمُ. إنه يمرّ في الشارع، دون أن ينظر إليه أحد، أو يسمعه أحد، كما لو كان من غير الموجودات أو المحسوسات.
بمثل هذا المعنى يوحي الروائي التشيكي – الفرنسي الشهير ميلان كونديرا، حين يتحدث عن الشاب المغامر بمركبته، المُسرِعُ بسيارته، والمُحدث صوتًا مدويًّا بدراجته النارية في عرض الشارع، دون أدنى اكتراث لأي خطر محتمل أو إزعاجٍ متحقق لأيّ أحد من المارّة. بمثل هذا يحلّل كونديرا هذه التصرفات في ثلاث من رواياته إن لم تكن أكثر: في رواية الخلود، وفي رواية البطء، وفي رواية الهويّة، حين يتناول التصرفات المغامِرة الخطِرة – على النفس والآخرين – لممتطي هذه الوسائل “الترفيهية”.
ولكن ما الدوافع الكامنة وراء هذا اللون الخطِر من الترفيه والتسلية؟
لا بُدّ أن يكون هذا الدافع خطيرًا هو الآخر. كأن يكون الدافع رغبة مُلحّة للإحساس بالوجود، للبحث عن الذات في قلب المغامَرة التي لم توجد في رتابة اليوم والليلة، في هامش اليوميّات، فضلاً عن وجودها في قلب ما يسميه الآخرون بالإنجاز الحياتي اللافت.
حسنًا، كيف أُلفتِهُم إليّ إذًا وقد أغمضوا عيونهم عن رؤيتي؟ وأصمّوا أذنهم عن صوتي؟ وبتروا ألسنتهم عن النطق إلا فيما هو انتقاد لشخصي وفعلي.
يُسرِعُ، لأن “السرعة تنتزعه من اتصال الزمن فيكون خارجه، تتلبسه حالة انخطاف” بحسب تعبير كونديرا. وكأنها حالة للهروب من البطء الذي يعتري حياته ويُشعِره بها بكل تفاصيلها التي تصيبه بالسأم، السأم من التفكير والتأمل الذي يستحضره البطء. ولكن هل تحقق له المغامرة، تلك الماثلة في السرعة ولفّ مقود السيارة حال السرعة في اتجاهات متعاكسة وبصورة مفاجئة، هل تحقق له التخلص من السأم؟
ما يصنّفه كونديرا نفسه ضمن ثالث أنواع السأم ويخصّه بتسمية “السأم الثائر”. الثائر المتمرد على كلّ قانون مدني أو اجتماعي أو أخلاقي يدعو إلى “التعقّل” واتباع سيرة الشخص العاقل المسؤول؟ وهل قام هو بهذا الفعل إلا هربًا من تلك السيرة التي لا يلبث يعيَّر بانعتاقه من ربقتها؟ فصار يفرّ منها فرارًا دون جدوى إلا بمزيد من هذا التمرد والتباعد بسرعة جنونية وأفعال مغرقة في التمرد المرفوض من كل أطياف السلطات: الدينية والاجتماعية والقانونية.
وفي الوقت الذي يحبّ أن يشار إليه بالتمرد على كل سُلطة، استقواؤه وتفرده لمّا لم يجد ما يحقق له الفرادة التي يستحق الإشارة من خلالها إليه بالبيان والبنان. لمَ لا يجرّب حظه بالمخالفة والضرب بأرتال القوانين عرض الحائط؟ أن يضعها تحت عجلات مركبته، سيارته أو دراجته النارية التي لا يمكن لأحد أن يوقفها.
كنتُ أقول، في الوقت الذي يحب أن يشار إليه مميّزًا بين الناس بهذا الفعل، يطمس جميع نوافذ وزجاج سيارته متخفيًا عن الأنظار، وكأنه يشكّل لنفسه درعًا واقية من الفضول، والاستهجان، يضرب حول نفسه حصنًا من المادة المعتمة التي تحقق له العزلة عن المحيط الذي عزله أصلاً، أو هكذا شعر هو، فمضى في عزلة مزدوجة تحجبه عن أعينهم المنكِرة لشخصه، المستنكِرة لفعله.
حدّ البراءة منه الذي يردده أحدهم إمعانًا في الرفض والاستنكار حد إنكار الحقيقة قائلاً: “هذا مو ولدنا ولا هو من ديرتنا أصلاً !”. هذه البراءة التي تعبّر غالبًا عن فشل في فهم المشكلة – تلك التي هم جزء منها وسبب لديمومتها – فضلاً عن القدرة على الاحتواء.
ولكن، كيف يمكن احتواؤهم وهم يغامرون بحياتهم؟
إنّهم يعرضون حياتهم وحياة الآخرين للخطر. لماذا؟ أليس لديهم عقل يفكرون به؟
بلى، إنهم يفكرون، ولكن بطريقة أخرى تختلف عن الطريقة التي تفكرون بها. إنهم يغامرون حقًّا، المغامرة هنا تستحضر الموت، إلا أنها تستحضر الحياة أيضًا في نفوسهم، فذروة الأشياء تُستحضر بحضور نقائضها. المغامَرة في نظرهم أمتع طريقة لاستحضار الحياة، للشعور بها في أقصى حضورٍ ممكنٍ لها، في تكثيفها من خلال حضور نقيضها على الطرف الآخر (الموت)، خصوصًا لمن يجد فيها – الحياة – رتابة لا يضرّ معها المغامرة المؤدية للموت، ثم إن هذا الموت الذي يتهدد المغامِر، فينجو منه ويقاومه ويقهره من خلال لعبة مغامَرة هو بحد ذاته متعة. إنها شكل من أشكال الوجود والحضور بل والقوة في نظر ذلك الشاب المغامِر.
يستمر الرفض الاجتماعيّ، والنظاميّ، معتبرًا إياهم حفنة من السَّفَلة والمتمردين الذين يستحقون العقاب، أو الدعاء بـ “الله يهديهم” لفعلهم المشين في ألطف احتواءٍ ممكن وسط حالة الرفض الذي يحاصرهم أنّى توجهت “مركباتهم”. فينُكرون هُم بدورهم هذا الإنكار الاجتماعي الجماعي، ويقول واحدهم: أين نذهب؟ هذا حقنا! حقنا المُصادَر، ورياضتنا التي لا يعترف أحد بحقنا في ممارستها؟ إن جميعكم يرفض هذه الممارسة، فخذوا جزاءكم، نحن سنُسمِعُكم أصوات عجلات مركباتنا وضجيج محركاتها إن لم تريدوا سماع أصواتنا التي ما زال الرفض يكتمها.
كلٌّ يرى الأمر من منظاره الخاص الذي لا يكاد يعكس إلا ذاته ورأيه ونظرته للأشياء، وبين حقهم في الاحترام، نعم، الاحترام! صدّقوا أو لا تصدّقوا، هذا الذي يُظَّن انتهاكه من خلال هذه الأفعال المضادة للمجتمع وإرادته، وبالمناسبة يمكن القول بأن هذا التصادم بين المجتمع وبعض أبنائه الذين لا يمكن البراءة منهم بأيّ حالٍ من الأحوال، هذا التصادم سيبدو أبديًّا؛ لأنه تصادم فيما أظن بين أكثر من رغبة، وأكثر من إرادة.
بين حق هؤلاء الشباب في الاحترام والاعتراف والملاحظة والالتفات – بغير إشانة – والاستماع إليهم، والاستمتاع بالحياة، وحق البقية، وهي الكثرة الكاثرة من الآخرين في الراحة والأمن والاطمئنان، بين هذا وذاك، ضاعت الحقوق جميعًا!.