[2] حول سلسلة الماجد الروائية.. رماه بشرر
زكي اليحيى
اتسمت مقالة الماجد “عبده خال وترويض كافكا” والمنشورة على ثلاث حلقات من بين باقي مقالاته ضمن سلسلتيه الروائيتين بشيء من القسوة. أو هكذا تبدو! فكما أشُير في الحلقة السابقة، فإن الاطراء اليتيم الذي قدمه الماجد لـ “ترمي بشرر”، كان في سياق مسؤولية المثقف؛ وكاد أن يكون له أخ! عبّر عنه الماجد بـ “اللغة الخاصة” لعبده خال. ولكن حتى هذا الأخ سرعان ما أجهز عليه الماجد بذريعة استهلاك خال لرصيده اللغوي. وذلك حين شبه الماجد لغة عبده خال بـ “البقرة” وأن استنفادها سريعا أدى به إلى حالة من الاستجداء. فلم يبق في هذه “اللغة الخاصة” أي إطراء! ولولا الانصاف الواضح جدا والمعادلة بين جماليات وهفوات الأعمال التي يستعرضها الماجد في سلسلته لكنت اتهمته بالتحامل على عبده خال بالذات وأنني لم أقرأ “ترمي بشرر”.
محاكمة المثقفين من جهة وقبول الشفاعات الإبداعية من جهة أخرى تطرح سؤالاً مهماً في تناول العمل الإبداعي وعلاقته بالمثقف بشكل عام بعيدا عن “موت المؤلف”. وأظن أن الصورة انعكست مع عبده خال حيث انسحبت سهام الماجد المسلطة على “ترمي بشرر” بشكل سلبي وإن لم يكن متعمداً على تجربة خال أو هكذا يبدوا المقال.
لعل هذه “القسوة” من الماجد على عبده خال كانت بمثابة انتقام لحالة الكآبة والبؤس التي أدخله خال فيها. أو أن الماجد كان يريد أن يقول إن عبده خال لم يقدم شفاعات إبداعية تخفف من وقع حالة الكئابة والبؤس. وإلا فلم ينج أيضا رسول حمزتوف من المحاكمة غير أن النكهة العامة لما قدمه الماجد في “انجيل داغستان” لم تجعل صورة رسول حمزتوف كما هو الحال مع عبده خال. وبنفس الموازنة قدم الماجد أليف شافاك ومحمد حسن علوان، ويوسف زيدان.
أظن أن عبده خال يستحق شيء من التعاطف. فروايته البوكرية لها من الاعجاب والانتشار ما أوصلها للطبعة السابعة على ما أظن. وهذا يكشف أن من القراء من تكون متعتهم في هذا النوع من الأعمال بما فيها من بؤس وتعري، أو في مشاهدة أقبح ما في أجساد المجتمعات ومنحدراتها الأخلاقية. للماجد الحق في التعبير عن موقفه من الناحية الإبداعية، بل وحتى ما انتابه من شعور وذلك واضح جدا، لكن أظن أن الزوايا التي عبر عنها (شعرا) كانت كاشفة عن قدرته على خلق الصور أكثر من كونها أدوات تساعد على كشف النص بمستوى يقارب الواقع.
فقد وظف الماجد صوره الشعرية، بل قام بوضع مرايا مقعرة بعد تسليط الضوء على بعض السلبيات مما جعلها أقرب للصور الكاريكاتورية الساخرة منها للنقد أو التحليل. وعلى قدر ابداع الماجد في رسم هذه الصور على قدر ما تكون مؤلمة لمن يخالفه في الرأي. وهذه الصور برزت بشكل واضح جداً في الحلقة الثالثة من مقالته الخاصة بعبده خال. كصورة (رمية النرد العمياء) على سبيل المثال و(زواج المحارم). أو البئر الواقع بين كافكا ومحمد شكري ومحاولة هروب شخوص الرواية لشارع التحلية. والمثال الأهم والأكثر حدة هو البقرة وما جرى عليها. أجد أن بعض هذه الصور كان يحتاج للتخفيف من حدتها بالذات إذا كانت احتمالات ان تُسحب هذه التعابير على الأبعاد الفنية والقيمية، فمثلا وصف “مكب نفايات” وللوهلة الأولى قد تفهم على أنها تُعَبِر عن مستوى الرواية وهذا بالطبع غير صحيح، بل أنها كانت لتصف الرواية بما تناولته من نفايات اجتماعية فقط.
دعني أهمس في أذن الماجد والذي هو من المعجبين بمظفر النواب والمدافعين عن الحزن والبؤس وبعض الألفاظ البذيئة التي تظهر أحيانا في شعره؛ لمَ لمْ يَظهر هذا النوع من الدفاع مع عبده خال؟ بالتأكيد ستكون إجابة الماجد أنه لم يقف على رافعة إبداعية كالتي عند النواب. وبالرغم أنه لم يذكر مظفر في مقالته الا أنه عبر بشكل غير مباشر أن بذاءات “ترمي بشرر” كانت سوف تقبل لو أن اللغة تم توظيفها بعيدا عن مثال (البقرة) وبعيدا عن التكرار والترهل حسب الماجد.
أظنني سأصر على الماجد بأنه يمتلك من المهدئات ما يجعل السلبيات تتسق مع المقالة بشكل يبعد عنها نكهة التحامل. فمثلا تصدرت هذه الجملة (الاستباقية) الحلقة الثانية من “داغستان بلدي”: هل أبدو متحاملا؟، وكذلك مقالة اليف شافاك التي ختم حلقاتها بثلاث فوادح تاريخية في “قواعد العشق” وأعقبها بتهكم سفير النمسا في اسطنبول، ولكن ذلك كله أظهره الماجد وكأنه لا يعدو “حس من الدعابة…بذاكرتها التاريخية الهشة”. أو مع الطيب صالح، حيث لم يحاكم الماجد بطل الرواية (مصطفى سعيد) الا بعد أن وظف الصور الشعرية لصالح مؤلف العمل، صور من أمثال “ثنائية اسخيليوس” و “مينما” و”ستعثر على نيل آخر”. دون أن أنسى بالطبع تلك الصور الخاصة بقبائح مصطفى سعيد – والذي عبر عنها الماجد بـ “مثقف ستريبتيز” و “مكب للمتعة الرخيصة” و “جائزة بورنو”، قدمها في أبشع صورها أثناء حديثه عن الفصل التاسع من “موسم الهجرة الى الشمال” ومع ذلك قال عنه الماجد بأنه الفصل “الأكثر إثارة وتشويق”.