[2 ـ 3] عبده خال وترويض كافكا

عبده خال

مع أمل ضئيل في النجاح، قمت بأكثر من محاولة لإيجاد علاج مناسب لسمنة الرواية، وكان كتاب “رسائل إلى روائي شاب” لــ بارغاس يوسا قريباً مني، كتاب أشبه بحانوت عطارة، يحوي عدة وصفات تصلح لعلاج أورام الكتابة، لعلي أجد وصفة أو ترياق يصلح لإنقاذ “ترمي بشرر” مما اعتبرته أنا وآخرون مشكلة صحية ودهون متراكمة ينبغي التخلص منها سريعاً قبل أن يصاب قلب الرواية بالعطب، في الرسالة التاسعة من الكتاب يقترح يوسا الدمية الروسية (ماتريوشكا) كحل لمثل هذه الحالات التي تعاني من اضطراب في نظامها السردي، و(ماتريوشكا) عبارة عن لعبة فلكلورية تتكون من الدمية الأم ومن بقية أفراد العائلة من الدمى المتشابهة، والتي تختبئ كل واحدة منها في بطن الأخرى، من الأكبر وحتى الأصغر حجماً، تذكرتها وفكرت فيما إذا كانت تصلح علاجاً ناجعاً للمشكلة كونها أحد تقنيات السرد التي تتوالد فيها القصص كما تتوالد الأرانب النيوزلندية، أو كما يقول بارغاس “حيث تتولد عن القصة الرئيسية، قصص أخرى فعلية”.

ولكن عندما أخذت أقرأ في تفاصيل هذه الوصفة، وجدت أن (ماتريوشكا) لن تكون حلاً لمشكلة بهذا الحجم المتفاقم، وأن على عبده خال أن يعود إلى الوراء، إلى أولى صفحات الرواية ليستطيع أن يقوم بما تقترحه عليه (ماتريوشكا)، وفي التقييم، تعتبر هذه عملية علاجية معقدة وستستغرق وقتاً طويلاً، بالإضافة إلى أن ذهاب رواية خال للبوكر أقفل الباب تماماً، بدت لي عندها من المهام المستحيلة، لذلك فضلت أن أستمع إلى نصيحة المتنبي:

أعيذها نظرات منك صادقة

أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

أعدت (ماتريوشكا) إلى رفها في محل العطارة، وعدت للسير حثيثاً بين سطور الرواية، وكان هدفي هذه المرة هو البحث عن مثقف (القصر) الدكتور خالد بنان، فقد استطعنا، على الأقل في حدود هذه السلسلة من المقالات والسلسلة التي سبقتها، من وضع قائمة أوليّة تتضمن صفات بعض المثقفين: خوف عجوز ماركيز من قول الحقيقة، يسوعية كويلو، ضعف كلود فرولو، دانديّة أبو لمعه، شرقية سينويه، انتهازية ليون، السيلان الجنسي لدى مصطفى سعيد، حيادية مينما. وأنا سعيد بأن عبده خال في صدد تقديم إضافة نوعية لهذه القائمة، فقد كان مهتماً في هذه الرواية بطبيعة عمل المثقف الدكتور خالد بنان كوسيط لعمليّات الغسيل الثقافي لـــ (سيد القصر)، أو ما نصطلح عليه دلاليّاً بـالعمل لإنجاز مصالح (المؤسسة)، حيث لم يكن خالد بنان سوى كوع رائحة أو (إلبو) لإعادة توجيه مياه القصر القذرة وتصفيتها من شوائبها عبر محاضرات ونشاطات ثقافية وخيرية مدفوعة الثمن.

ما يؤلمني بالفعل، أنني لن أتمكن من الإجهاز على خالد بنان كما كنت أفعل في كل مرة ألتقي فيها بمثقف مدعي وفارغ مثله، لأن عبده خال كفاني المؤونة، وأدعو الله أن لا يضع أحداً في مرمى لسان طارق فاضل أو (الماطورجي)، بطل رواية خال القادم من حي الحفرة، فقد أهّله الحي بثراء لفظي من البذاءات التي لو سقطت على مدرسة من (اللسانيات المتقدمة) لفجرتها بالكامل، فضلاً عن خالد بنان الذي استقبل منها ما يكفيه، ويكفي سيد القصر لسنوات ضوئية قادمة، وهنا لا يمكن إلا أن أنوه بذكاء عبده خال الحاد، حيث ترك باب طارق فاضل مشرعاً أمام القراء، خصوصاً أولئك الأكثر ترددا في استخدام البذاءات، حتى إذا تصفّحَ أحدُهم الرواية، ذهبَ بشكل تلقائي لنبش المشد الثقافي من حوله والبحث عن أمثال الدكتور خالد بنان، ثم هرول إلى باب طارق فاضل ليستعير منه لسانه ولو لساعات قليلة.  

عادة ما تجاورني الروايات في سرير نومي، إلّا هذه الرواية، فهي عبارة عن مكبٍّ كبير من النفايات والمسوخ البشرية، ومن الصعب أن تكون مسترخياً على سريرك ويكون هذا المكب إلى جوارك دون أن تشعر بالقرف، أو تشمَّ رائحة الموتى، موتى يملئون رئاتهم بالفزع الذي يصيب قراء الرواية ويعيدون نفخه في وجوههم بضحكات وأغاني فاحشة، وسيكون بديهياً ساعتها أن يأتي عليك الصباح وأنت منهك تماماً، متوعدّاً عبده خال بتمزيق روايته، لتفاجأ بإحدى تلك الأرواح النافقة وهي تقدّم لك حساءً من الكآبة المعدة بعناية، يحدث ذلك كل ليلة دون أن يملَّ سكان (حي الحفرة) من التواطؤ مع المؤلف في سلب نعمة النوم من عين القارئ ومحاولة جرّه من رجليه إلى قاع الحي، فكل مشهد هو استدراج، وكل إعادة للمشهد هي شَرَك، وما زاد على ذلك هو اقتراف للرذيلة.

لقد درّبت أحلامي طيلة سنوات على أن تكون سعيدة وذات مجسات قادرة على استحلاب سواد الكتابة وتحويله إلى فردوس ليلي، الأغاني لا تتوقف، وابواب المتعة لا تكف عن الدوران، واستطعت المحافظة على هذا الإرث الشهرزادي، لذلك لم أخطط يوماً لمقايضة تلك الدقائق الحالمة والرطبة التي كنت أقضيها مع (لوكريثيا) بارغاس يوسا، و(ديلجادينا) ماركيز، و(حسنة بنت محمود) الطيب صالح ….، بقائمة عبده خال السوداء: طارق فاضل، وحسين الرديني، وأسامة، وسيد القصر، ودكتور خالد بنان، ولا حتى بتهاني، وسعاد، وسميرة، ومرام، وبالطبع ليس بالشواذ ومنافحي التيوس اللذين يغص بهم ليل الرواية وزرائبها المنتشرة بين سطورها مثل إعلانات إباحية!.

ومن أجل مواجهة كل ما يحاول بذله عبده خال من جهد لتلميع صورة (الواقعية القذرة)، عدت أنا لــ (حانوت الرسائل) الخاص بــ يوسا لعلي أستعير اقتباساً سوداويّاً يقرب القارئ من مذاق ذلك الحامض البشري الذي راح خال يقطّره في آذان قراءه دون شفقة، لأجد بعينين تملؤهما الدهشة هذا التعليق له على روايتَي (رحلة إلى أقاصي الليل) و(موت بالتقسيط) لــــ لويس فيردينان سيلين “قيؤهما من البذاءة والشذوذ يستحوذ علينا وينوّمنا، معطلاً احتياطاتنا الجمالية أو الأخلاقية التي تتيح لنا، ونحن في وعينا، أن نعارضه”.  

حديث أمس

[1 ـ 3] عبده خال وترويض كافكا

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×