[1 ـ 3] عبده خال وترويض كافكا

محمد الماجد

 

لم أهرب من (مستعمرة) كافكا وحوائطها المطلية بالقار وظلال الأشباح لأجد عبده خال في انتظاري عند بوابة الخروج، لا يمكن أن تكون هذه الرواية مدربة كل هذا التدريب لتؤدي أدوار المدن المحروقة، ولا يمكن لكتابة مهما بالغت في ولعها بالكوابيس وتربيتها أن تدفع بها إلى مظاهرة بهذا الحجم المرعب، بالنسبة لي على الأقل، كنت أحببت أن أرى جَدَّة في عيون عبده خال كما هي مكة في عيون رجاء عالم، تمنّيت لو أنه زوّر أو كذب أو خان، وأنه لم يرتكب فضيحة الكتابة أو أن يكون (طهرانيّاً) على هذا النحو، إلّا أن يكون ميلان كونديرا قد عبث بدخيلته “إن الرواية التي لا تكشف جزءاً من الوجود ما يزال مجهولاً هي رواية لا أخلاقية”.  

لا أميل إلى الواقعية إلا بوصفها فرضاً وجوديّاً وفراغاً مخيفاً من المادة الصلبة، لعبة فيزيائية لا تستهوي سوى المهووسين بالعقل المحض، فيما الفنون في مكان آخر، مكان سائل ولا يتوقف عن الجريان في عروق اللامرئي، وعليها تقع دائماً مهمة تهشيم صورة المادة، وملاحقة آثارها وكل خوارزمياتها المعقدة حتى أصغر لوغاريتم، لذلك لا جنة في الواقعية، لا خيال، ولا حتى ورشة فنية صغيرة يمكن من خلالها معالجة أعطاب الحياة، فكل ما تفعله الواقعية، حتى في سلوكها الأقل عدوانية، هو فتح الجروح وتوسيع الحُفر ونصب الكمائن، هي أشبه بالسير في حقل ألغام أو المشي على حصباء أو لافا ملتهبة، وإذا كان لا بد لي من طرق أحد أبوابها السبعة التي هي بعدد أبواب الجحيم، فعليَّ أن أبحث عمن يموه عليَّ الطريق إليها بعصا سحرية ونهر من المخلوقات الأسطورية لأتمكّن من ابتلاع الطعم، وهذا ما قامت به رجاء عالم حين قدمت لي مكة الحالمة، والمسكونة بسحرانية عصيّة على الاقتلاع، فظننت بأن الأمر ذاته سيتكرر مع (جَدّة) عبده خال.

ويا لخيبة ظني، لم تبزغ تهاني، أو (هنّو)، بعباءتها الضّيقة، متكأةً على انحناءات جسدها حتى تأكدت بأن “ترمي بشرر” هي أحد أبواب الجحيم ذاك، لقد خدعتني رجاء، وأوقعني خال في ورطة قراءة روايته، حملني على حصان من الرهانات إلى قلب قلعته المنيعة، وتواطأت أنا مع هذه الخدعة الإسبارطية المكشوفة فأكملت قراءة الرواية دون أن أنتبه إلى أن قدميَّ قد تورمتا من المشي في حواري جَدّة، وأن الدخان ورائحة مقالب البيارات بدأت تأكل أطرافي، هذا والرواية مازالت في بدايتها، مشغولة أو عاكفة على صياغة بيانها رقم واحد “كل كائن يتخفى بقذارته، ويخرج منها مشيراً لقذارة الآخرين”، وإذا كان لي من أمنية فهي أن أخرج سالماً من كل هذا الذي أحسبه جحيما من السرد المفضي إما إلى جبّانة أو مصحّة.!.

أحسست أن كافكا يسكن جسد عبده خال، وأن ذلك التشيكي حين أقدم في روايته القصيرة (المسخ) على تحويل بطلها جريجور سامسا إلى حشرة، الأمر الذي دفع عائلة جريجور ومحيطه إلى التخلي عنه في نهاية المطاف، فإن قراء (ترمي بشرر)، أو أغلبهم كما يوحي لي تصوري المثالي، سينحازون إلى موقف عائلة جريجور، والتخلي من عبده خال، سيحدث ذلك كلّما لمحوا عيسى الرديني أو طارق فاضل أو حتى عمة هذا الأخير خيرية، ثم تبين لهم بقليل من الحسّ الروائي أن هؤلاء جميعاً ليسوا أكثر من مسوخ، كان على أحدهم أن يقنع خال بترويض كافكا، أو إخباره بأن مبدأ التناسخ أو الحلول الفلسفي لا يمكن أن ينتقل بين أشكال الكتابة بهذه السيولة، لأن أحداً لم يخطط –حتى الشيطان ذاته – لأن يجعل من قرّاءه ضحايا لأرواح سيزيفية معذبة، ثم يعود لتدويرهم في أفران من الكلمات والجمل المبتورة الأصابع كما فعل عبده خال!.

الرواية حاصلة على البوكر العربي فيما يبدو أنه أصبح تقليداً لدى الجائزة فيما يخص الروائيين السعوديين، فقد تلته رجاء عالم بعد سنة واحدة في الحصول على الجائزة، ثم محمد حسن علوان، وهذا يبدو تصرّفاً حصيفاً لولا أن هذا الإطراء البوكري أثار حفيظة بعض النقاد بحسب خال، ودكتور عبد الله الغذامي كان أحدهم، متهمين نص روايته بالترهل السردي أو الثرثرة، فيما رد خال هذا الاتهام باتهام مقابل للدكتور عبد الله الغذامي بأنه لم يقرأ الرواية، وضرب كتابه (السحارة) كمثال لضعف ملَكَة السرد لديه، ذكر ذلك في لقاءه مع عبد الله المديفر في برنامج (في الصورة)، وبعيداً عن النقاش الذي تناول استحقاق الرواية للبوكر العربي من عدمه، سأنحاز ودون تردد إلى رأي الدكتور عبد الله الغذامي، ففي يقيني ليس في وسع أي قارئ عادي إلا أن ينظر للرواية كامرأة سمينة، فترهلاتها واضحة، وحاجتها قبل ذهابها للبوكر إلى دخول عيادة تجميل وتنحيف، أو الانضمام لنادي رياضي، كان ملحّاً، وموضوعاً غير قابل للتسويف والنقاش.

أما فيما يتعلق بلجنة البوكر، فمن الواضح أن قميص اللجنة كان فضفاضاً بما يكفي لامتصاص وزن الرواية المفاجئ، فجُمَل وصور كثيرة قام بتكرارها خال دون ذريعة سردية تبرر له مثل هذا السلوك: ارتطام جمال المجنون بمقدمة سيارة سيد القصر مثالاً، حادثة مبيت طارق فاضل مع تهاني مثالاً ثانياً، قصة كره عمة طارق المدعوة خيرية له مثالاً ثالثاً …، ورابعاً، وخامساً، وعاشراً، دون أي أمل في العثور على ذيل لهذه القائمة، مع ملاحظة أن الكثير من مضمون هذه الجمل كان وفيّاً لمبدأ النسخ واللصق، مع تغيير طفيف في هيئة الألفاظ، ولم يجترح تفرعات أسلوبية عمودية أو أفقية يمكن معها الادعاء بحدوث تطور وقفزات ساهمت في تدعيم بناء الرواية، أو نموها نموّاً طبيعياً، أي أنها لم تمتلك أيَّ سبب جينيٍّ يبرر لها كل هذا الشره السّردي الذي أفضى إلى زيادة غير مبررة في الوزن.  

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×