المجتمع ورجل الدين.. لا أحد ينتقد جثة..!
زكريا العبّاد
في ظل تراجع دور رجل الدين الواضح في مجتمعنا إلى درجة كثرة واستسهال توجيه النقد إليه فإن من المنطقي أن نتساءل عن موقعه في خارطة القوى: فهل يُؤمن مجتمعنا في وقتنا الراهن بوجود دور ريادي لرجل الدين؟ الإجابات المحتملة للسؤال تقع بين الإيجاب والسلب، فإما أن يكون هذا النقد الموجه لأداء ومواقف رجل الدين في ظل القضايا الاجتماعية مؤشرا على انتظار دور معين من رجل الدين، وإما أن يكون المجتمع لا يتوقع من رجل الدين أيَّ دور فاعل، فلماذا يشغل نفسه بتوجيه النقد إليه؟! لماذا لا يتوجه مباشرة إلى القوى التي يراها فاعلة ومؤثرة ويترك رجل الدين في حالة العجز التي يعانيها؟! وعليه فإن الإجابة الحصرية هي: نعم، يعتقد المجتمع أن لرجل الدين دورا مفترضا في الواقع الاجتماعي، وإلا لما توجه إليه بنقد يكشف عن انتظار دور ما منه، فلا أحد يوجه حديثا إلى شخص ميّت.
من جهة أخرى، من الممكن أن نتصور فئات أخرى من المجتمع تتوجه بالنقد إلى رجل الدين ليس لأنها تنتظر منه دورا ما، بل لأنها ترى فيه منافسا لموقعها الاجتماعي وترى في نقدها الموجه إليه ضربات تدفعه إلى حافة الهاوية وتنهي وجوده بالضربة القاضية. غير أن وجود هذا النوع من الخطاب هو مؤشر آخر على وجود دور لرجل الدين، فلا أحد يوجه اللكمات إلى جثة هامدة.
عليه، إذا ما أقررنا بأن رجل الدين لا يزال حيا يتنفس، و لا يزال يحتل موقعا في خارطة القوى في المجتمع رغم تراجع أهميته ودوره في ظل هجمة الثقافة الغربية العارمة، فلا يزال المجتمع ينتظر منه أن يقوم بدور ما حين يقلق المجتمع على تفاقم بعض المشكلات الاجتماعية والتربوية، فإذا ما سلمنا بذلك فلنا أن نتساءل: لماذا يتوجه المجتمع – أو جزء منه- بالنقد إلى رجل الدين بدلا من أن يدعم ويقوي موقعه ودوره؟ فإذا كان المجتمع يؤمن بدور إصلاحي لرجل الدين أليس من الأجدر به أن يدعم هذا الدور الإصلاحي ويستثمر فيه؟!
وقد يقال في سياق الرد على هذا التساؤل: إن المجتمع لا يتحرك حركته في الإطار الاجتماعي بل ينطلق من احتياجاته و شكواه كفرد، لذا فهو مشغول بمشكلته الخاصة وليس مشغولا بالشأن الاجتماعي حتى لو بدا أن الفرد يتكلم في قضية اجتماعية، و لكي نستوعب هذه القضية فلنتصور فردا يشتكي من ارتفاع حالات الطلاق في المجتمع وهو يتصور أن لرجل الدين دورا مفترضا في هذه القضية، وبناء على ذلك فهو يتحدث في وسائل التواصل الاجتماعي عن هذه المشكلة ويدعو رجال الدين إلى المساهمة في حل هذه المشكلة، فهل هذا الفرد ينطلق من شعور بالمسؤولية الاجتماعية أم أنه ينطلق من وجع فردي يخصّه؟ إن وجود أفراد متكاثرين على وسائل التواصل الاجتماعي يتحدثون عن قضية واحدة قد يخلق لدينا تصورا زائفا بأنهم يناقشون قضية اجتماعية في حين أن الأمر لا يتعدى الفضفضة الجماعية ولا يزيد عن كونه تنفيسا وتبرما يفتقر إلى الشعور بالمسؤولية عن إيجاد الحل ناهيك وجود بوصلة وتصور لطريق الحل. وما دام الشعور بالمسؤولية غائبا فكيف يمكن تصور دعم مجموعة الأفراد هؤلاء لدور اجتماعي إصلاحي لرجل الدين؟
إن الحديث عن الشعور بالمسؤولية الاجتماعية لا ينفكّ أبدا عن مفهوم الحالة الرعوية في المجتمع، والأمر مشابه كثيرا للحالة الرعائية لمؤسسات الدول الرعوية، فلو شعر الأفراد بوجود تقصير ما في دولة رعوية تَعتَبر فيها الجموع أنفسها رعايا لراع يغذوهم بالرعاية والخدمات فلا يمكن حينذاك أن نتصور أنها ستتحرك من واقع المسؤولية بل ستتحرك من واقع الرعية التي تطالب بالرعاية وستشكو مثل رضيع سُحِب ثدي أُمّه من فمه فبكى!
وفي الوقت الذي قد يُعتبر فيه شعور الأفراد بالمسؤولية ومحاولتهم تنظيم أمورهم فيما يخص الخدمات والرعاية تدخلا في شؤون الراعي وافتئاتا عليه، كذلك الأمر بالنسبة لرجل الدين، إن تدخل الأفراد في قيادة رجل الدين الاجتماعية للمجتمع طالما اعتبر تدخلا من غير المختص في عمل المختص وجرأة من الأفراد على حياض الشريعة وتحدثا في الدين بغير علم.
رقابة المجتمع
وثمة طرح مرتبط يجب مناقشته في هذا السياق، وهو الطرح الذي يقول بإن المجتمع هو في الأساس -وبحسب الرؤية الدينية- (ناظر) على نفسه، بمعنى أن المجتمع بمجمله يمتلك حق ومسؤولية الرقابة على سلوكه وثقافته وأنشطته، وأنه حين يمنح جهة دينية هذا الحق فهو يمارس نوعا من العلمانية إذ يفصل نفسه عن جزء من السلوك الديني المفروض عليه أداؤه مباشرة، فهو يعيش حالة مادية أرضية ويفوض لجهة ما القيام بوظائفه الروحية والدينية نيابة عنه.
وعند مناقشة هذه الفكرة فلنا أن نتساءل لا بهدف التملص من المسؤولية ولكن بهدف استيضاح صحة هذا المفهوم، فهل أن كل ما هو من المسؤوليات والحقوق والأدوار الدينية فلا يمكن تفويضه واختصاص جهة معينة به وإلا لأصبح هذا انفصالا وفصلا للدين عن الواقع المعاش؟ فمن المعروف مثلا أن حصول المسلم على الحكم الشرعي والتعرف عليه هو من مسؤولياته في الأساس ولكنه يلجأ إلى غيره من المختصين في التعرف عليه، وكذلك ينبغي عليه أن يُعلّم أبناءه أحكام الشريعة و بالمثل كذلك، يجوز له أن يؤدي ذلك من خلال المعلمين، و الأمر مشابه في رقابة المجتمع على ذاته من حيث سلامة الأنشطة والممارسات والثقافة المحركة، و لنتسالم على أن هذا النوع من النشاط ينتمي إلى الحقل الإداري، وهو مجال لا يتوفر عليه كل أحد فهو لا يخلو من حاجة إلى مختص، فلو تصورنا أن المجتمع ضَمِن وجود فئة تقوم بهذا الدور على وجهه الصحيح، فما الضير في أن يفوّض المجتمع هذه المسؤولية الإدارية إليه؟ والخلاصة التي أود الوصول إليها ولو من باب الافتراض هي أن اختصاص جهة ما بمسؤولية اجتماعية عامة لكونها متخصصة فيها لا يعني تملّص المجتمع من مسؤوليته في هذا الجانب أو ذاك، إذ من المفترض أن تبقى رقابة ونظارة المجتمع على ذاته من خلال رقابته ونظارته على هذه الجهة المراقبة، والنقد هو أحد مظاهر رقابة المجتمع على الحوزة على سبيل المثال لو افترضنا أن الحوزة هي الجهاز القائم بهذه النظارة باعتبارها الضمير والعقل الممثل لهذا المجتمع مثلا.
والآن فلننزل إلى أرض الواقع لنتساءل لماذا لا يمارس المجتمع دوره الرقابي على المؤسسات التي فوض إليها مهاما إدارية كالقضاء والتعليم والإرشاد الديني؟ والجواب أنه لا يقوم بدوره ليس لأنه صار يتبنى مفهوما علمانيا يفصل الحياة عن الجانب الديني بل بالدرجة الأولى لأنه رُبِّي على أن يكون (رعيّة) في كل ما يتعلق بالشأن العام، كُرّس في وعيه وفي لا وعيه أن يترك إدارة الشأن العام ل (الكبار) ونشأ وتربى معزولا عن هذا العالم، لا يفهمه أصلا لأنه تربى في عالم صغير محدود الأفق.
و الحوزة التي نشأت في بيئة رعوية هي نموذج مصغّر عن هذه البيئة، فهي لا تتدخل فيما (ليس من اختصاصها) من أمور الشأن العام، وترعى رعاياها وفق ما ترى فيه صالحهم، وتربيهم على أن لا يتدخلوا في (شأن الكبار) من أهل الحوزة، ويتم تسويق ذلك تحت مقولة (قلدها عالم واخرج سالم)، أو لا تتحدث في الدين بغير علم، أو أن الأمر بالمعروف له شروط معقدة. فإذا قبلنا بأن انعزال الجمهور في حياتهم الفردانية وترك الأمور للمؤسسة الحوزوية وانتقادها على النتائج غير المرضية هي نوع من العلمانية فعلينا أن نتقبل أن الحوزة ورجالها ساهموا في صياغة هذه الحالة العلمانية لأنها وعدتهم إن هم (قلّدوها العالم) أن تكون النتيجة (سالم) وهو ما لم يحدث!.
و من اللافت والإيجابي أنك ترى مؤخرا من بين رجال الدين من يدعو إلى تعزيز الدور الرقابي للمجتمع على الخطباء على سبيل المثال، من خلال النقد المسؤول، و تمحيص وفرز الجيد من الرديء، و تعزيز حضور و مكانة النماذج الجيدة في المجتمع، ويمكن قراءة هذه الدعوة من بعض رجال الدين كصحوة متأخرة إلا أنها التفاتة مهمة لأهمية تعزيز ثقة المجتمع بنفسه عبر استعادة دوره الرقابي الذي هو أحد ركائز استمرارية الثقة بين الطرفين من جهة، وأحد أهم ركائز سلامة المسيرة الاجتماعية مِن جهة أخرى.