[3 ـ 3] دعني أساعد جين بحق الجحيم
محمد الماجد
تمنيت لو أن الطيب صالح استجاب للنداء الغريزي لمصطفى سعيد، فإذا كان لأحدٍ أن يتخيل الرمزية الثقافية الاستثنائية لهذه المقتنيات، عندها فقط سيتمكن من معرفة أن مصطفى لم يكن أكثر من مثقف ستريبتيز، عارضة متعة في ملهى ليلي، ما إن يبدأ أحد بالتلويح لها حتى تبدأ بالتخلي عن أعز ما تملك، ما فعلته جين موريس بمصطفى كان فضيحة ثقافية، وللقارئ أن يرصد تحوّلات وتمثلات جين موريس العديدة في المشهد الثقافي خاصة فيما يتصل بأداء بعض الصالونات والمنتديات الأدبية التي تتخذ من الثقافة ذريعة لبلوغ أهداف لا تمت للثقافة بصلة!، ولطالما تخيلت ما إذا كان من المناسب أن أنتزع صورة جين موريس من أوراق الرواية إلى الفضاء العام لأضعها كملصق على واجهة كل ما ذكرته من هيئات ومؤسسات امتلكت من الجرأة والصفاقة ما يكفي لتشويه الواقع الثقافي ومسخه، وكأنها وسائط متعة أكلت من ثدي الثقافة وجسدها أكثر مما أكلت من روحها وعقلها!.
هل أنقذ مينما المشهد الثقافي من السقوط في هاوية جين موريس؟
لقد حاول بالتأكيد، وهو بوصفه نقيض مصطفى سعيد الوجودي، فقد عمل حثيثاً من أجل انقاذ سمعة المثقف، وإنْ بدا محايداً في نظر القارئ، ومقيّداً بشروط العقد الذي أمضاه مع الطيب، ولكنه حياد من كان يريد أن يمرر خطته في هدوء، فقد أخفاها بين طيّات كلامه، ولم يكن من العصي الاستنتاج بأن ما سوف أدعوه بـــ (تيار أنسنة الآخر) في الرواية، هو من أسسه وبجملة لافتة وردت في الصفحة السابعة، السطر الثامن وحتى العاشر، حيث سنعثر على جملة غاية في الرشاقة ” …إن الأوربيين، إذا استثنينا فروق ضئيلة، مثلنا تماماً، يتزوجون ويربون أولادهم حسب التقاليد والأصول، ولهم أخلاق حسنة، وهم عموماً قوم طيبون”.
وفي رغبة منه لمساعدة مينما، راح الطيب صالح يدفع بحظوظ وشعبية هذا التيار بين القراء إلى الأعلى، فعلَ ذلك عبر يافطات عاطفية قامت على تصميمها أسماء سوف تظهر للقارئ من حين لآخر من بين سطور الرواية، ولكيلا يستهين أحد بهذه اليافطات، أو يسرع إلى اتهام هذا الاستنتاج بالخفة، سأكشف بكل سرور عن أسماء أعضاء هذا التيار ومهامهم وأضعها في عهدة القارئ دون أن أثقل ضميره بضرورة الاصطفاف إلى جانبي:
- أستاذ القرية الإنجليزي، وهو من نصح مصطفى سعيد وهو في عمر الثانية عشرة بالهجرة إلى القاهرة ورتب له أمر استقباله هناك.
- السيد والسيدة روبنسون، الزوجان اللذان استقبلا ورعيا مصطفى في إقامته القاهرية ورتبا له أمر سفره إلى لندن.
- الكولونيل همند، والد آن، إحدى ضحايا مصطفى سعيد، وقد أفضى بشهادة أمام المحكمة لم يستطع فيها الجزم بقتل مصطفى سعيد لابنته.
- البروفسور ماكسول، أستاذ مصطفى في أكسفورد، تطوع للدفاع عنه أثناء محاكمته رغم كراهيته له.
لذلك في رأيي، وبموازاة ما يُوصف بتبني الرواية للعلاقة المتوترة على الدوام بين الشرق والغرب، وبتركيز ودقة هذه المرة، ينبغي أيضاً الحديث عما أسميه بالعصب الرئيسي للرواية، والذي يتمحور حول طبيعة تعاطي المثقف العربي مع الغرب تزامناً مع بدأ البعثات التعليمية مطلع القرن العشرين، وهذا على الأغلب ينطبق أيضاً على واقعنا الحالي الآن؟، أي أن موضوع الرواية ذاتي في المضمون، وفردي إلى حد بعيد، قبل أن ينقله الطموح النقدي إلى منصة الجدل الحضاري.
ماذا بقي؟
هل لي الآن أن أستغل مقولات وميول الطيب صالح لإيضاح المزيد حول هذه الرواية؟، نعم، فأنا أعرف حبه للأدب الجاهلي وأدب العصور المتقدمة، كان هذا واضحاً في كتاباته، كما في ميله لأن يختار لـ (مينما) وظيفة مدرس للأدب الجاهلي بعد رجوعه من بعثته اللندنية، وقبل أن أقول بأن هذه الجملة الأخيرة مجرد مزحة، يجب الاعتراف بأنها ستضفي نكهة تبين مدى حب الطيب صالح للشعر عموماً، ولشعر ذي الرمة بالذات، لهذا وجدت من المناسب أن أذكر سبباً للشبه بين هذه الرواية وبين بيت ذي الرمة الشهير:
تمامُ الحج أن تقفَ المطايا
على خرقاءَ عاقدةِ اللثامِ
فلكم تشبه رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) خرقاء صاحبة ذي الرمة، فبرغم كل هذا الجهد الذي بذلتُه في قراءتها، وتأويلها، وبالرغم من أنها كانت وعلى الدوام واحدة من أثمن الطرائد، إلا أن الأكيد أنها ما زالت طليقة، ومعقودة اللثام، لا تفصح عن وجهها لكل طالب، فضلاً عن متطفل مثلي، ويمكن لأي قارئ جسور، أن يدخل على الرواية من باب خلفي، أو يخرّ عليها من السقف، أو يهدم جدرانها ببلدوزر إن أراد، فليجرّب، وسيرى أن في وسعه الوصول إلى نتائج مغايرة، إن لم أقل معاكسة تماماً لما وصلت إليه!
هل يمكن وضع خلاصة؟
نعم ولا، فهذه الصفة الغير محكومة بتأويل بعينه للراوية، هي أكثر ما يميز الطيب صالح في كتابته لــ (موسم الهجرة إلى الشمال)، بحيث، وأنا هنا أتحدث بعفوية شديدة، بالإمكان اعتبار هذا النص عصيّ على التوجيه الأيدلوجي: ستحنو فيه على الاستعمار إن أردت، وستبغضه إن أردت، ستكره مصطفى سعيد، ولكن لن تعوزك الأسباب لتغفر له وتقع في صداقته، ستحتار كثيراً في أمر مينما، وأين يضع قدميه من كل ما يحدث، في الحقيقة لا شيء في هذه الرواية يبعث على الإعجاب أكثر من حالة التشظي والعجز التي سيصاب بها قارئ أيدلوجي، لأنه ببساطة لن يستطيع الإمساك بالرواية وتوظيفها بالشكل الذي يريد، وكأن الطيب صالح كتب هذه الرواية برؤية (شعريّة)، من المرجح أنه استلها من أبيات لأبي نواس طالما تغنى بها في أكثر من محفل ولقاء:
غير أني قائلٌ ما أتاني
من ظنوني مُكَذّبٌ للعيانِ
آخذ نفسي بتأليف شيء
واحدٍ في اللفظ شتى المعاني
قائمٌ في الوهم حتى إذا ما
رمتُه رمتُ معمّى المكانِ
ما جعلني أصل إلى هذه النتيجة، بعد اتمامي لقراءة الرواية مرتين على الأقل، هو استماعي للاستضافة الرائعة للطيب صالح وعلى مدار حلقتين من حلقات البرنامج الطليعي (هذا هو)، الذي كان يُبث في مطلع التسعينات، لمقدمه الإعلامي البارز الأستاذ محمد رضا نصر الله، لأن هذا اللقاء (بما فيه أبيات ذو الرمة وأبي نواس التي نسختها من صفحات البرنامج وألصقتها هنا)، قد أكد لي ما كنت خمنته مسبقا، ولأني لست من عشاق (النقد) المدرسي، ولا أميل تماماً للمقولات البنيوية فيما يختص بــ (موت المؤلف)، فلن أزيد على ما قلت، سوى أن أوصي أيَّ ذاهب لــ (موسم الهجرة إلى الشمال) أن لا يقيم فيها دون رفقة، وليأخذ هذا البيت للمتنبي معه:
ذراني والفلاةَ بلا دليلٍ
ووجهي والهجيرَ بلا لِثامِ