[تعقيب] وقفة أولى مع الماجد…قفزات الانتحار
في كل مرة تتناول فيها محمد الماجد (الشاعر) لابد لك أن تكتشف المعماري المختبئ بجانب (الناقد) و (المثقف الحقيقي). المفاجئ هذه المرة، أي في الحلقة الأولى من سلسلته الروائية الثانية المنشورة في صبرة والتي تناول فيها تجربة محمد حسن علوان أو بالخصوص رواية “موت صغير”، أنه نبتت بجانب المعماري روح مهندس الانشاء! والا فكيف لعنوان رواية علوان الأخرى “سقف الكفاية” أن تحيله الى صلابة خرسانة سقف البناء والتي ساقته للآخند الخراساني، صاحب “الكفاية”. أظن أن تداعي المعاني عنده وصل إلى الحد الذي يكشف ما يعتمل في ذهنه (أو لا وعيه) حال ممارسته لغوايته الكبرى. فالصور المتولدة من بعضها في نصوصه الشعرية تنساق برشاقة وسرعة تُفهمك ما قصده الجواهري بعد توقفه عن الكتابة سنة كاملة:
ويا شعر سارع فاقتنص من لواعجي
شوارد لا تصطاد ان لم تسارع
لم أستطع ان أكمل المقالة دون توقف طويل أمام استدعاء الآخند الخراساني في زمن الحداثة (وان كانت شكلية – أي الحداثة). فأي جنون هذا؟! الفيلق الخامس لمدعي الحداثة والذي ينأى بنفسه عن التراث بشكل عام كتهمة كلاسيكية دامغة؛ فما ظنك بتراث ديني تخصصي صرف؟! هذا الفيلق الذي جهد طويلا ليضع مقاسات للحداثة من أهمها الخروج والتمرد على كل ما هو ديني، كيف له أن يقبل بهذه الإحالة؟ فبدل أن تستهل برولان بارت وتختم بدريدا (المشكلة أنك ستجد من يقول لك: حتى هؤلاء تم تجاوزهم – ولعلك وصلت متأخرا) تستدعي صاحب الكفاية؟!
كان الأولى حداثيا أن يستدعي مسرحيات عُرضت في تشيلي ولم يحضر لها أي جمهور بسبب الفيضانات التي أطفأت الكهرباء ذات مساء حيث ترددها كان على خمسين هيرتز وليس كالبلاد النفطية والتي تكون دورة مولداتها على ستين هيرتز…! وأن يستمر على هذا النسق الممل المتسق واطروحاتهم التي تعمد فقط للزج بمعلومات لا صلة لها بالموضوع الا انها تصيبك بالاشمئزاز كاشفة عن الاندلاق والتوق لأي شيء غير مألوف شرط أن يكون وافداً من خارج الحدود تماما كفيضانات تشيلي! والتي ستعرف لاحقا أنها لم تحدث! والهدف بالطبع هو تحقيق سلطة المعلومة. أما أن تظهر التبجيل، بل المهابة من “كفاية الأصول”! فأي سرب غردت خارجه وأي قطيع أفسدت ثغاءه.
فهل يتصور أصحاب الفلاشات الحداثوية المندلقون على النتاج الغربي (المترجم بركاكة) أن يقْدم شاعر مثل الماجد وهو في الصميم من المشهد الحداثي الشعري الحقيقي غير المنسلخ من ذاته على الاحتفاء بأثر هو الحجر الأساس لعلم أصول الفقه في القرن العشرين! ربما! الماجد غير الآبه بمقاسات كهنوت الحداثة له سوابق متعددة كان يرصدها (سلف الحداثة) بسبب مشاركاته في بعض المناسبات الدينية. أما الان فهو يقدم اعترافات تدينه بأصالته وبفهمه الحقيقي للحداثة بعيدا عن بريق أسماء ومصطلحات مللنا من توظيفها منذ زمن الملحقات الثقافية وصولاً حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي.
لعل هذا التهكم يشي بموقف سلبي من الحداثة، ولكنه فقط تصوير كاريكاتوري للممارسات (التي لا تعدو شكلية وسطحية) في المشهد الثقافي والمتلبسة بمكياج حداثي لا يصل للعمق. والا فالحداثة كموقف من الجمال والحياة مطلب حقيقي بدونه تتوقف صيرورة الحياة ونتاجاتها الثقافية. يظل مفهوم الحداثة ملتبسا من أسسه الفكرية الى جمالياته وابداعاته. فمرة نعبّر عن الحداثة كمنقبة وأخرى كسبّة! وبالتالي فمرة يكون محمد الماجد في الصميم منه ومرة وكأنه بمنأى عنه. لا شك أن السياقات والتوظيف ساهمت في هذا الالتباس بالطبع. وإلا فمن المؤكد أن الحداثة كموقف وبعيدا عن كل التشوهات التي صاحبت إقحام مفرداته في المشهد الثقافي تظل مطلب وسمة، بل أساس لديمومة الجمال بمعناه الاوسع بعيدا عن أطر الزمن أو حتى (الهبَّات). من المصادفات الممتعة والمثيرة أن نرى تناول نفس هذا اللبس والارباك في وصف المشهد الحداثي في مقالة )مك تيج( المنشورة في الاتلانتيك عدد فبراير بالرغم أن المقالة كانت معنية بالدرجة الأولى عن الحرب في أوكرانيا وذلك قبيل وقوعها بأيام.
الماجد يعي تماما ما لهذه المقاربة من أصداء عند سلف الحداثة. كما يعي أيضا كيف للابتعاد عن العمق والاكتفاء بالسطح من نتائج قد “تجتمع فيه السلفية مع الحداثة”. وهذا التنافر والاجتماع تحكمه ميكانيكا الاصطفافات التي لا يقيم لها الماجد أي وزن، بل يتعمد مناكفتها ليعريها من كل أقنعة المصطلحات والأسماء والاحالات (لعقود وهم يقولون “بحسب”). فباعتبار التودد والتزلف لأيقونات الحداثة وحجز المقاعد في صالوناتهم، تكون مقاربة التراث بالطريقة التي تناولها الماجد هو نوع من الانتحار. لكن الماجد لن ينتظر لينكشف له ما انكشف لأدونيس متأخرا عن حداثة أبي تمام وأبي نواس. فتنقيب الماجد عن الحداثة كرؤية فنية بعيدة عن التنظيرات المملة ممتدة: “من قفا نبكي إلى ريا القرنفل” طامعا بالزيادة (متزملا بالريح).
فمراجعات الماجد لحوارات أدونيس في الميادين والمنشورة في صبرة على طول ثمانية عشر حلقة كشفت عن النهم والطمع في البحث عن الجمال من جهة والقدرة الفائقة على رصده أينما وجد من جهة أخرى. هذه الحلقات التي بدأت بعنوان يكشف عن وقوعه على لب ما قاله أدونيس في حواره الوثائقي: وداعا بودلير…أهلا أبا نواس.
وإذا ما استطردنا مبتعدين عن أدونيس والآخند وموت صغير ورجعنا للماجد الشاعر، فالقاعدة تبقى هي القاعدة وهي عدم الانصياع لفتاوى الحداثيين وقوالب النقاد الجافة والمقاسات المسبقة. والا فكيف له ان يحتفي بالثبيتي في أكثر من نص وفي أكثر من أمسية إما شعراً أو في سياق استعراض التجربة، بل ويذكره في أحد النصوص التي خص بها الشاعر على الدميني “شيخي ببكة” ثم يوضح أن المقصود هو الثبيتي! الماجد وعلى مدى تجربته الإبداعية لم يقم وزنا للحسابات والموازين التي ستقربه أو تباعده من أوساط (المثقفين) وهو يعلم كم ستلصق به من تهم التأثر والتكرار والاستنساخ. ولكن “واثق الخطوة يمشي ملكا”.
طبعا تهمة التأثر بالثبيتي فيها من الطرافة ما يكفي. فبعد صدور “مسند الرمل” ٢٠٠٧ م جاءت تهمة التأثر بسليم بركات. وفي النصوص الشعبية تلصق هذه التجربة بمظفر النواب. وأظن لو كتب العمود النبطي لرموه بأبوة محسن الهزاني. الماجد حاول أن يجيب عن كل هذه التهم بمقالة نشرت في قافلة الزيت عدد أغسطس ٢٠١٤ م ذكر فيها جميع أباءه ولم ينج! لسبب بسيط جدا، وهو المحرك لهذه التهم؛ لأنهم ببساطة لا يقرأون! فالحداثة تنأى بنفسها عن قراءة قافلة الزيت!
أما “موت صغير” ولغتها وانبهار الماجد بها وتخصيصه الحلقة الأولى من السلسلة الثانية أو العاشرة كما عنونها لتكمل السلسلة الأولى، فهو مثير جدا. ولعلنا نقترب من هذا الانبهار في وقفتنا الثانية معه.
اقرأ أيضاً