محمود درويش في عزف منفرد
محمد منصور
يبني محمود درويش قصيدته (عزف منفرد)* موسيقياً على إيقاع البسيط (مستفعلن فاعلن)، وليس بحر البسيط. والبسيط من البحور الممزوجة لاحتوائه تفعيلتين مختلفتين هما: (مستفعلن وفاعلن)؛ فيقوم درويش بتكرار (مستفعلن فاعلن) بخلاف الطريقة المعهودة في بحر البسيط من حيث توزيع القصيدة على أبيات يتساوى فيها شطرا كل بيت في كامل القصيدة (الصدر والعجز)، كما يقوم بإفراد تفعيلة (مستفعلن فاعلن) في سطر مستقل، بالإضافة لتنوع القافية في عدة أشكال. هذا يعني أنَّ درويش اعتمد (الشعر الحر) في بناء قصيدته.
قصيدة (عزف منفرد) كان لها من اسمها نصيب الأسد، فالقصيدة انفردت عن غيرها في العزف الموسيقي مما أحدث عدة إشكالات موسيقية، وهي:
1/ التسكين، ومخالفة النحو العربي من أجل استقامة الإيقاع موسيقيا في قوله:
لو عدتُ يوما إلى ما كان، هل أجدُ
الشيء الذي كان والشيء الذي (سيكونْ؟)
العزف منفردُ
والعزف منفردُ
فتسكين الفعل الناسخ المرفوع (سيكونُ) في غير تقفية، مخالفة نحوية سببها إصلاح الإيقاع الموسيقي من الخطأ.
2/ مخالفة الإيقاع الموسيقي الذي وضعه الشاعر لبناء قصيدته (مستفعلن فاعلن)، ليكون (مستفعلن مستفعلن فعلن) في قوله:
لجاءت الريح عكس الريح في ورقِ
(الصفصاف، والصفصاف يتقدُ)
فعبارة (الصفصاف، والصفصاف يتقدُ) خارجة عن الإيقاع الذي وضعه محمود درويش لبناء القصيدة (مستفعلن فاعلن)، وهذا الإيقاع (مستفعلن مستفعلن فعلن) لا يتحقق إلا عند التدوير، فتكون العبارة هكذا:
لجاءت الريح عكس الريح في ورقِ الصفصاف، والصفصاف يتقدُ.
بل المعضلة في هذا المقطع أكبر مما أشرنا إليه فالواضح من المقطع الكامل الذي وردت فيه هذه العبارة (الصفصاف، والصفصاف يتقدُ) هو كونها سطرا شعريا كاملا، وعلى هذا تكون منفلتة الوزن تماما. والمقطع الكامل هو:
صدَّقتُ روحي لمَّا قالت التصقِ
بالحائط الساقط، استسلمت للشبقِ
ولو كتبت على الصفصاف نوع دمي
لجاءت الريح عكس الريح في ورقِ
(الصفصاف، والصفصاف يتقدُ)
والعزف منفردُ
فالسطر الأول ينتهي بتقفية (التصقِ)
والسطر الثاني ينتهي بتقفية (للشبقِ)
أما في السطر الرابع فنحن أمام خيارين إنهاء السطر بتقفية ورقِ، فيكون السطر الخامس (الصفصاف، والصفصاف يتقدُ) منفلت الوزن.
أو تدوير السطر الرابع مع الخامس فتكون العبارة هكذا:
(لجاءت الريح عكس الريح في ورقِ الصفصاف، والصفصاف يتقدُ)، وهذا يعني إلغاء التقفيتين الأخريتين في المقطع: (التصق، للشبق)، والمتأمل يراها _أي التقفية_ ضرورية، ما يعني أن الإيقاع هنا غير منضبط. أو مخالفا للإيقاع الموسيقي الذي وضعه الشاعر لبناء قصيدته على أقل تقدير.
3/ تنازع الموسيقى بين التقفية والتدوير، و مثاله قول الشاعر:
لو عدتُ يوما إلى ما كان لن أجدا
غير الذي لم أجده عندما كنتُ
يا ليتني شجر كي أستعيد مدى
الراوي. وأسند أفقي حيثما ملتُ
فالملاحظ أنَّ الشاعر جعل حرف الدال المفتوحة والمتبوعة بألف الإطلاق في السطر الأول رويًّا للقافية، وكذلك الأمر بالنسبة للسطر الثالث إذ جعل حرف الدال المفتوحة والمتبوعة بالألف المقصورة رويًّا للقافية.
فيما جاء السطران الثاني والرابع بحرف التاء المضمومة رويًّا للقافية.
ونحن نرى أنَّ التقفية التي اتبعها الشاعر في الأسطر الأربعة أعطت نغما عاليا للقصيدة؛ فالروي في السطر الأول يشاكله الروي في السطر الثالث. والروي في السطر الثاني يشاكله الروي في السطر الرابع مما يزيد في الجرس الموسيقي.
لكن المأزق الذي وقع فيه الشاعر هو أنَّ السطر الأول لا يمكن قراءته إلا بالتقفية:
(لو عدت يوما إلى ما كان لن أجدا)، وتدوير السطر الأول مع السطر الذي يليه يؤدي إلى خلل موسيقي في التقفية.
أما السطر الثالث فلا يمكن قراءته إلا مدورا مع السطر الذي يليه هكذا:
(يا ليتني شجر كي أستعيد مدى الراوي. وأسند أفقي حيثما ملتُ)، وإلا انفلت الوزن في السطر الرابع: (الراوي. وأسند أفقي حيثما ملتُ).
————-
*محمود درويش، الأعمال الشعرية الكاملة، مؤسسة محمود درويش والأهلية للنشر والتوزيع ودار الناشر، المجلد الثاني، الطبعة الأولى 2014، ص162.