الدكتور الشويخات يُفصح: الموسوعة العربية ومجلس الشورى عرقلا “الأمريكي الذي قرأ جلجامش” تكوّنتُ بين سيهات والرياض وخليج سان فرانسيسكو.. وتوحّدت مع ستيني غريب الأطوار
أحمد الشويخات
في ظروف وسياقات كتابة “الأمريكي الذي قرأ جلجامش”..
قُدّمت في المقهى الثقافي بالدمام مساء السبت ٢٨ مايو ٢٠٢٢م
نجتمع هذا المساء للحديث عن ظروف وسياقات كتابة رواية “الأمريكي الذي قرأ جلجامش” التي صدرت في مارس ٢٠٢٢م عن مركز الأدب العربي للنشر والتوزيع بالدمام.
لكي نضع إطاراً لهذا الحديث، من المفيد أن نسأل أولا: ما المقصود بظروف وسياقات كتابة الرواية؟
الظروف والسياقات هي ما يحيط بالعمل ويتفاعل معه ويُسهم في تشكيله من عوامل الزمان، والمكان، والتجربة والثقافة، دوافع الكتابة، أي ما يمكن إجماله تحت عنوان المؤثرات الفردية والإجتماعية والفنية للكتابة.
وبهذا يكون مفهوم الظروف أو السياقات واسعاً جداً. وليس على الكاتب أن يقدم تحليلاً لهذه المعطيات والأبعاد التي قد يكون واعياً ببعضها وغير واع ببعضها الآخر. والتحليل العميق لظروف وسياقات كتابة عمل ما بهذا المفهوم المتشظي والمتعدد والمتداخل هو من عمل النقاد والباحثين، وليس من مسؤولية الكاتب.
طبعاً هناك نقّاد وباحثون يؤمنون بموت المؤلف، بمعنى أن ما يهم هو العمل ومكوناته وعلاقاته الداخلية وأبعاده الجمالية وتأثيراته بعيداً عن المؤلف وتجربته أو حياته، ومن هؤلاء النقاد رولان بارت وهو رائد بنيوي سيميائي فرنسي شغل الساحة بأطروحاته في ستينيات وسبيعينيات القرن العشرين الميلادي. ولعل هؤلاء الذين يؤمنون بموت المؤلف لا يهمهم حديثنا هذا من قريب أو بعيد، إنما يهمهم العمل والعمل وحده.
هناك نقاد في الطرف المقابل يرون أهمية معرفة ظروف انتاج العمل وتفاصيل حياة الكاتب وتجاربه وثقافته من حيث أن هذه المعرفة تسهم في فهم العمل نفسه ودواخله وأبعاده.
لذلك كله، سيقتصر حديثي على سرد مختصر وعفوي لبعض ظروف كتابة العمل دون محاولة النزوع إلى التحليل الأكاديمي أو الجمالي، أو التفصيل في حبكة الرواية وبنائها وشخصياتها وأبعادها المعرفية والجمالية واللغوية. سيتضمن السرد مقاربة سريعة لموضوع دوافع الكتابة. وإذا كنتُ سأقدم سرداً سريعاً فيه تاريخ أو لحظات زمنية ومكانية، فيجدر بي استعادة التحذير الذي أطلقته الأم صوفيا بوكاشيو في الرواية:
“لا تصدقوا أحياناً ما يقوله ويكتبه المؤرخون”.
يعود اهتمامي بملحمة جلجامش إلى فترة دراستي في الجامعة، وقرأتها أول مرة باللغة العربية في أواخر السبيعنيات الميلادية، وهي ترجمة طه باقر. ثم قرأتها مرات بالعربية (ترجمة فراس السوّاح وترجمة عبدالله جمعة)، وبالإنجليزية: ترجمة صموئيل كريمر الصادر في الستينات، ثم عمل جورج أندرو الصادر في الثمانينات من القرن العشرين.
عشتُ في سيهات، مسقط الرأس والقلب، و الرياض العزيزة طالباً في جامعة الرياض أدرس التربية و تدريس اللغة الإنجليزية 1974-1978، ثم في منطقة خليج سان فرانسيسكو لأتخصص في التربية متعددة الثقافة في جامعة سان فرانسيسكو 1979-1980، ثم طالب دراسات عليا في التربية و علم اللغة الإجتماعي بجامعة ستانفورد في الفترة من 1980- 1984. وفي منطقة سان فرانسيسكو تكونت ذكريات عن بعض أجواء الحي الإيطالي (حي نورث بيتش) بالمدينة ودكة الصيادين أو المرفأ Fisherman Wharf، وجزيرة الكتراز Alcatraz والجسر الذهبي المعلق The Golden Gate Bridge فوق الخليج..
وفي كل إجازة صيف حين أعود من أمريكا، التحقتُ ببرنامج العمل الصيفي للطلبة الجامعيين بشركة أرامكو Summer Students Program فعشتُ بعض أجواء الحي السكني لكبار الموظفين (السِّينْيَر). في عام 2003 شُنَّت الحرب على العراق، تلك الحرب التي تعللت بأعذار تبيّن فيما بعد أنها غير صحيحة، وتركتْ العراقَ مُمزَّقاً يعاني إلى اليوم طائفياً وتنموياً.
هكذا، تمازجت معطيات الأماكن والتجارب الخاصة مع جلجامش والحرب على العراق، وتشكّلت أفكار ومشاعر وذكريات تحتاج إلى شكل تعبيري لا توفره إلّا الرواية، وبدأ كل ذلك يبحث عندي عن سرد متداخل. وهكذا جاءت أحداث الرواية بين المنطقة الشرقية في بلادنا السعودية وسان فرانسيسكو والعراق.
تقدم الرواية قصة أمريكي بلغ الستين من العمر، وهو من أصول إيطالية اسمه ديفيد بوكاشيو، وهو مثقف غريب الأطوار مغرم، منذ صباه، بفنون العالم وباللغة العربية وملحمة جلجامش وثقافات العالم وتاريخ العرب والمسلمين.
ويقوده سفره المتواصل وقلقه المعرفي وفضوله إلى الانضمام، عام 2005م، إلى الجيش الأمريكي في العراق ليعمل مترجماً. وهناك يطوفُ شبحُ جلجامش، كشخص ونص. يبدأ ديفيد بداية غير جيدة فبعض زملائه يشك في ولائه بسبب تعاطفه مع العراقيين. بعد نحو عام من وجوده في العراق، يطلب العودة إلى مدينته سان فرانسيسكو من أجل زوجته المثقلة بالأعباء (لورا)، ووالدته المريضة (صوفيا) التي أُصيبت بالشلل، فصمتت بعد أن كانت تروي القصص عن سلالة آل بوكاشيو.
يظل ديفيد عالقاً في العراق تتأجّلُ عودته باستمرار بسبب تأخر التوقيع النهائي على إخلاء طرفه وبسبب تكليفه بمهمات ميدانية وسط الشكوك المتزايدة في ولائه ووسط ويلات الحرب. خلال المعاناة، تتكشف له جوانب من ملحمة جلجامش، وكأنها تتحدث عما يعيشه الآن، وكأنه يقرأها أول مرة. تستعيد الرواية في السياق التشابه بين ديفيد وصديقه العربي رجب سمعان، المولع بالفنون والترجمة كذلك، وقد التقيا في شركة أرامكو ـ في الظهران السعودية ـ قبل عقود حين كانا شابين متحمّسين.
الآن في العراق، سيُكلَّفُ ديفيد بمهمة أخيرة قبل عودته المنتظرة هي مرافقة دورية استطلاعية قتالية بمحاذاة نهر الفرات، فهل سينجو؟ هل سيعود؟ كيف ستسير الأحداث في عالم صعب ومُشَوَّش؟ وكيف سيتصرف في سان فرانسيسكو بائعُ الزهور المُسنُّ جورجيو غرزياني الذي أحبَّ الأم صوفيا؟
ذلك طرف من عالم الرواية، وعساني بهذا التقديم السريع لم أفسد التشويق لدى القراء ولم أجهض رغبتهم أو رغبتهن في قراءة العمل.
كتبتُ مسودات لمشاهد وأحداث من الرواية على مدى سنوات، لكن انشغالي بمشروع الموسوعة العربية العالمية لأكثر من عقد من الزمان، ثم بعضوية مجلس الشورى لثماني سنوات؛ لم يتح لي الوقت والمزاج الكافيين لإكمال العمل، فتأجل المشروع كثيراً.
حين انتهت عضويتي في مجلس الشورى عام 2020م، قررتُ أن أعود إلى بعض المسودات وأعيد الكتابة متفرغاً، هذه المرة، ومعتكفاً على إكمال العمل. وتفرغت للعمل مدة عامين (٢٠٢٠ و ٢٠٢١)، و ساعد على ذلك فترة الحجر بسبب كورونا.
وفي المرحلة الأخيرة من العمل أغلقتُ على نفسي الباب في مُعتزل مدة شهر كامل في البحرين، بعيداً عن الأهل والأصدقاء، نائياً عن احتمالات أنبوب انفجر في الحمام، أو مصباح احترق في الصالة، أو عين موقد فرن انطفأت بغتة في المطبخ، أو مكيف سكت فجأةً، أو سائق أتى لإحضار أو أخذ غرض من المنزل، أو فلان ذهب وفلان أتى أو سيأتي.
ولمدة شهر من الاعتكاف عملتُ بسرعة خشية أن يسرقني الوقت أو يفتر الحماس لإعداد مسودة العمل للمطبعة.
أشكر هنا زوجتي التي تفهمت أهمية الاعتكاف ووهبتني المساحة و الحرية والتشجيع للانكباب على العمل، و إخوتي و أولادي و أصدقائي الذين منحوني الفضاء الخاص والدعم، ثم احتفلوا أكثر من مرة بصدور العمل.
كلمة أخيرة حول لماذا نكتب السرد في الرواية أو الشعر أو القصة؟
هناك أسباب عديدة، ربما بعدد الكُتّاب أنفسهم. من هذه الأسباب والدوافع: مواجهة صعوبات الحياة وهشاشتها، والتعامل مع قلق الفناء كما في ملحمة جلجامش نفسها، ومنها الرغبة في الإبداع وتحقيق الدهشة وتقديم المبهج والجميل في حوارية ثقافية كما عند الناقديْن باختين وجادامر، ومنها التأمل المعرفي والكشف عن أبعاد ومعاني إنسانية نبيلة بما في ذلك التأكيد الروحي للإنسان كما يعبر جيمس جويس، ومنها الحوار الاجتماعي و التاريخي بصورة أدبية كما في الروايات الاجتماعية عند نجيب محفوظ وعبده خال، ومنها التنقيب الجمالي و الفكري في الشخصيات التاريخية كما عند أمين معلوف ومحمد علوان، ومنها البحث عن الزمن الضائع واستعادته بمعنى من المعاني كما عند مارسيل بروست، ومنها تشجيع الإنسان على المضي وإحراز النصر حتى و هو محطم حيث بالإمكان أن يتحطّم الإنسان لكن لا يمكن هزيمته كإنسان كما عند ارنست همنجواي، ومنها الرغبة في تحقيق الذات وجودياً كما عند سارتر، ومنها نقد السائد كما عند غازي القصيبي وتركي الحمد وكولن ولسون ، ومنها أسباب اجتماعية ونفسية ومعرفية أخلاقية كما عند تولستوي وديستويفسكي، ومنها تقديم المعرفة والحكمة بطريقة ساخرة كما عند سرفانتيس وكازنتازاكي. والمبدأ الأخلاقي الوعظي دافع قديم كانت الرواية تفتخر به لقرون قبل حلول عهد ما يُسمى ب “الرواية الجديدة” في الستينيات من القرن الماضي على يد الناقد الان جروبييه في فرنسا حيث انتهى عنده زمن المواعظ والبطولات الفردية في الرواية، وحلّ محلها التعبير عن غرابة الحياة والأحداث ومآزق الفرد والمجتمع كما في روايات كافكا مثلاً. وهذا لا يعني أن السرد في عالم اليوم قد تخلى عن تقديم المعرفة وتأكيد القيم الأخلاقية.
إذاً، هناك طيف واسع ومتنوع من الأسباب التي قد تدفع كاتباً أو كاتبة ما لكتابة سرد معيّن. ويبدو واضحاً أن هناك طرقاً متعددة ومتنوعة لكتابة الرواية، بعدد الكتاب أنفسهم كما أسلفت. ولكل رواية أسلوبها في بناء حبكتها الخاصة وعوالمها وصياغتها اللغوية وطريقتها في النظر إلى العالم وإلى تقنيات السرد كصناعة.
بالنسبة لي، كتبت رواية “الأمريكي الذي قرأ جلجامش” مدفوعاً بإلحاح التعبير عن مشاعر ورؤى تتصل بالمكان والحوار مع جلجامش بموازاة الحرب، ولإثارة أسئلة تتصل بالفن ودوره في الوعي والحياة مقابل صعوبات الواقع وغربة المثقف كشخص له فرادته الذاتية مهما كان البلد الذي نشأ فيه. إلى ذلك، كانت الرواية مساحة لإثارة أسئلة تتصل بموقع الترجمة وطبيعتها الانطولوجية (الوجودية). ومن خلال العمل، صنعت الرواية منطقها الخاص بها، وقد كان هذا مبهجاً لي. واستتبع ذلك انبثاق وحضور شخصيات مُهمشة ومنسية عربية وأمريكية هي من ضحايا الحرب مع احتفاء معرفي، كما أرجو، بالفنون من شعر وفن تشكيلي وموسيقى.
بالطبع، أترك تقييم الرواية من حيث الحبكة والشخصيات والبناء واللغة والتشويق للقراء والنقاد. لكن المؤكد أنه لم يكن أمامي سوى اللجوء إلى الفضاء الروائي الفسيح للتعبير عن تداخلات ورؤى متصلة ألمحتُ إليها. وهكذا: مُكره أخاك لا بطل.
أظنه من المناسب الآن التوقف وإتاحة المجال للمداخلات والحوار. أشكر لكم الاهتمام وحسن الاصغاء.