ذاكرة الشاعر العوامي تستعيد ما حدث في حج سنة 1366 موكبنا ودّعه الناس بالتهليل و "الجبّاب".. عند سور الدبيبية
الحلقة الأولى
من ذاكرة عمرها 73 سنة؛ يستحضر الشاعر والباحث عدنان السيد محمد العوامي تفاصيل ما حدث في حجته الأولى، مرافقاً لوالديه، وهو في سنته التاسعة. رحلة طويلة، بدأت عند بوابة سور بلدة التوبي، وما زال الشاعر العوامي يتذكر ما عاشه “الحاج الصغير” في تلك الرحلة التي تمت في خريف 1947م.
“صُبرة” تنشر الحلقة الأولى من شريط ذكريات الشاعر..
ذكريات حاج صغير
عدنان السيد محمد العوامي
في أحد أيام الخميس من شهر شوال عام 1366هـ، عاد الوالد (رحمه الله) من السوق ظهرًا، مستعينًا بغترته، في أداء مهمتين اثنتين في آن؛ مسح العرق المتفصِّد من جبينه، وستر بسمة الظفر في الصفقة التي عقدها مع الحملة دار الحاج أحمد بن مرزوق السيهاتي (رحمه الله)، لكنه فوجئ برفض زوجته لها. كتم غيظه ريثما يسمع ذريعتها لهذا الرفض.
– يبو عدنان، أنِي گلت لك نبغى نحج، لو گلت لك نبغي نسلم فلوس؟
– عجيب! يعني نحج بلاش؟ متى عهدش بي أطر؟
– حاشاك، نحج بفلوس، لكن نكسبها، ما نخسرها، جيب الرجال واني اتفاهم وياه.
دعاه للغداء في الخميس التالي، وتمت الصفقة، وقبِل الرجل الشروط، وهي أن يركب السيد مع السائق في الغمارة، وتركب حرَمُه وابنهما البالغ تسع سنين في صدر صندوق السيارة، وهذا كله عمولة لقاء عشرين حاجًا يقدمهم السيد للحملة دار.
من الدروازة
في أحد أيام الثلث الأول من ذي القعدة، ويوافق مطلع الميزان، بداية فصل الخريف، كان موعد الانطلاق إلى الديار المقدسة، لم يذهب من أهل القرية أحد للعمل عصر ذلك اليوم باستثناء (كولية الشركة وعمال القُنطراز)، فهم خارج المنطقة، ولن يتمكنوا من الحضور لتوديع الحجاج إلا من كان له قريب في الحملة، أخ أو أب….
في الوقت المحدد تحرك الحشد من دروازة(1) بلدة التوبي الشرقية رجالاً ونساء، وشبانًا وشابات وأطفالا، بعضهم يحمل أمتعة الحاج أو الحاجة، فكان موكبًا رائع البهجة، تجلله التهاليل والأهازيج، والصلوات، قاصدًا (لستيشن)، عند الواجهة الشرقية لسور الدبيبية، حيث تقف الشاحنات (الدمنتي)، التي سوف يستقلها الحجاج.
هناك اختلطت الحشود المتقاطرة من كل حدَب وصوب، وبعد أن رصت الأمتعة في بطون الشاحنات إلى جانب براميل الديزل والبنزين، وعُلقت القرب وأواني الطبخ، ومعها الأمتعة القابلة للكسر، مثل القداوة والنوارجيل، وما شابه، في المراحل (الجِوالق، أو الزكائب) على جانبي الشاحنات، وما إن أعطيت إشارة الصعود وحانت لحظة الوداع حتى التفت الزنود بالأعناق، وانضمت الصدور إلى الصدور، واختنقت الحناجر بحشرجة النشيج المكتوم، واخضلت الخدود واللحى بقطرات الدموع، ولا مكان للوم أبدًا فاللحظة لحظة فراق، لا مجرَّد سفر عابر.
وإزاء إلحاح رئيس السواقين (أبو صويلح) على المتوادعين بالكف وترك الحجاج يصعدون اضطر الحجاج للصعود إلى أسطح السيارات، وبدأت الشاحنات تتهادى في طريقها نحو الشمال، وفوقها الأعلام تخفق مرفرفة كأجنحة الطيور الملونة وارتفع صدح الحناجر بالتهليل و(الجِبَّاب) والصلوات.
شاحنتان
كان الموكبُ مؤلَّفًا من شاحنتين، إحداهما من نوع (دمنتي T Diamond)، والثانية من نوع (مك – Mack)، وكان حملهما مقسَّمًا إلى ثلاثة أقسام: صندوق السيارة، أو جسمها (البدي – The body)، وفي صدره وضعت الأمتعة، وصناديق التنك، والشنط، وفوقها حزم الفرُش، وأعلاها قعد النساء، وخصصت مقدَّمته لبراميل الديزل والبنزين، وفوقها قعد الرجال، وعلى الجوانب عُلِّقت القُرَبُ والمراحل (الجوالق)، وفيها المؤن وأواني الطبخ ولوازمه، وخصصت الصناديق على جوانبهما، التي أسفل الصندوق، لعُدد الإصلاح، وأدوات الصيانة، أما أسفلُ سطح السيارة، فوق العجلات فخصص لأعمدة الخيام ولوازمها من خيات (أوتاد)، وطنب، وغيرها إضافة إلى الصاجات(2).
استمر الموكب في تأوُّده متَّشحًا بظلال النخيل، المشرَّبة بخيوط الذهب متسللة من أهداب شمس الأصيل، وتمادت أعلامه مرفرفةً خفاقة في الفضاء كلما تمادت أصوات التهليل و(الجباب) متعالية من الحناجر، عبر طريق القرى الشمالية، وعلى جوانب الطريق تناثر مجاميع من أهل القرى خرجوا يستقبلون ويودعون، ولم تختف صورة تلك الصفوف إلى أن انتهى الموكب إلى سبخة صفوى، بين صفوى والعوامية ومنها إلى بلدة الجبيل، حيث توقف عند برج (طوية)، أول محطة تحط عندها قوافل حجاج القطيف للاستراحة والتزود بالماء، من الموضع الوحيد في الجبيل الذي به بئر ماء عذب منه يرتفق سكان الجبيل(3).
من تغريزة إلى تغريزة
بعد أداء صلاة المغرب وتناول العشاء، وملء ما فرغ من أوعية الماء انطلق الركب تلقاء الجنوب الغربي، وبعد وقت قصير غلب النعاس عيني الحاج الصغير فأغفتا على صخب الشحنات وزمرجة محركيهما، وهمهمة حركة الركاب في الدفع (الدف)، والجر، وقرقعة الصاجات في محاولات شاقة ومضنية لاجتياز الرمال، فما إن تستنقذ سيارة من مغرز حتى تنغرز أخرى، والآن لا يتذكر من ذلك العراك الممضِّ مع الرمال إلا رحلته عصر اليوم بين عيون الحناة الناضبة حيث خيم الركب بالقرب من تلك العيون(4)، وحين حاول أن يجرب الخوض في أوحالها غاصت رجلاه في طينها، فلم يجد ما يغسلهما به، إلا الرمل، فعكف على دعكهما به إلى نظفتا، فنجا بأعجوبة من عقوبة محتملة، أقلها التوبيخ والتقريع، فالماء في الصحراء أثمن من الذهب.
كانت المحطة التالية عين نجم بالأحساء، أقاموا في ضيافتها ثلاث ليالي غادرها الركب بعدها متلججًا نفود الجافورة، وكان آخر عهد الركب بالماء النقي هي آخر قطرة ارتفقها من الماء الذي تزود به من الأحساء.
————–
(1) الدُّروازة: الباب الكبير، وخصوصًا باب القلعة. فارسية. انظر المعجم الذهبي، قاموس فراسي – عربي، محمد ألتونجي. والتوبي لم تكن مسوَّرةً آنذاك، لكن هكذا كانوا يسمون المخرج الشرقي للبلدة.
(2) صفائح، أو شرائح مستطيلة من التنك، أو التوتيا المعدنية؛ (الشينكو أو الزنك)، تستخدم لمساعدة في الخروج من (التغاريز)، إنغراز عجلات السيارة الرمال.
(3) انظر الموسوعة الجغرافية لشرق البلاد العربية السعودية، عبد الرحمن عبد الكريم العُبيِّد، إصدار نادي المنطقة الشرقية الأدبي، الطبعة الثانية، 1413هـ جـ2/103.
(4) الحنَّاة، وفصيحها الحنَّاءة: بلدة إلى الشمال من ثاج، انظر الموسوعة الجغرافية لشرق البلاد العربية السعودية، عبد الرحمن عبد الكريم العُبيِّد، جـ1/317- 319، وموقع الثقفي للخرائط، لوحة (7).