[لهجة القطيف1] عن العذوق وشماريخها
حبيب محمود
طيلة سنواتِ حفري في اللهجات القطيفية، الريفية عيناً، لم يُدهشني من ظواهرها أمرٌ بالقدر الذي تُدهشني مرجعيتها العربية الصميمة. وفرةٌ ثرية من الاصطلاحات المستعملة لدى المزارعين التقليدين حتى الآن. وفرةٌ كاثرة لها جذورٌ مغروسةٌ في أمّهات المعاجم العربية، بالدلالات نفسها، وبالأصوات الأصل عينها، وأحياناً بوجود أصوات بديلةٍ غير بعيدةٍ عن استعمالات العرب الأوائل1..!
:
كنتُ شابّاً يانعاً حين قرأت كلمة “صُنبور” عند أبي منصور الثعالبي صاحب “فقه اللغة”. نحن، في القطيف، نسمّي بذلك قاعدة النخلة بعد قطعها. وكنتُ أظنّها عاميةً محضةً، خاصّة أن آباءنا كانوا يوسعون المعنى إلى قاعدة النخلة المحترق، وأمّهاتنا اشتققن من المعنى معنى جديداً هو “الاحتراق” حتى الاسوداد أو التفحُّم. فكانوا يقولون “صمبر الغداْ” أي احترق، ووجهه “امْصمبر” أي مسودّ. وكلُّ ذلك من ظواهر الانزياح ـ أو التعدد أو التطور ـ الدلاليّ المعروفة في كلّ لغات العالم.
:
لكن البحث اللاحق، على تقطُّعه، وسّع الدائرة المعجمية التي تسكنها لهجة سكان القطيف عامة، ولهجة فلّاحيها الزراعية على نحو خاص. أكاد لا أبحث في بُنية مادة، أو معنى كلمة، إلا وتأخذني المعاجم إلى قرونٍ ضاربةٍ في العمق. وذلك لا يبعث على الفخر بعروبية اللغة والسكّان فحسب؛ بل يبعث على الوجع من انحسار المادة اللغوية الزراعية عن ألسنة الأجيال الجديدة التي يتعمّقُ انفصالها عن الأرض يوماً بعد آخر.
:
على أن المعجم الزراعيّ له عمقٌ وتعدُّدٌ مصدريّ أوسع من اللغة العربية نفسها، وربّما أبعد تاريخياً. خاصة أن تطوّر العلوم اللسانية كشف عن حقائق معجمية جديدةٍ في لغاتٍ أقدم من اللغة العربية، وبالذات في اللغتين الأكادية والآرامية الحافلتين باصطلاحات زراعية وبحرية مستعملة حتى وقتنا الحاضر لدى المزراعين التقليديين.2
:
ثمة لغةٌ تاريخية نابتةٌ في طبيعة الأرض، مصقولةُ بحياة الناس، محفوظة جيلاً بعد جيلٍ في إهاب حيلة الفلّاحين العارفين بمزاج النخيل والنبات وطبع الماء.. هذه اللغة تجفّ من ألسنة الناس، كما جفّ الماء، وتضاءلت كما تضاءلت مساحات البساتين. هذه اللغة لم تكن لغة تواصل حصراً. كانت لغة حياةٍ تحتشد فيها الثقافة والبيئة والحقيقة والمجاز والفكرة والصورة.. كانت سجلّاً حيوياً لوجود الإنسان في تفاعله مع وجوده ومحيطه وشركائه..
:
للحديث صلة..
—————————-
1. المقصود ـ هنا ـ الإبدالات والتغييرات الصوتية على بعض الحروف، مثل إبدال الجيم ياءً، والثاء فاءً، والقاف كافاً.. إلخ، وكذلك مثل تغيير “راكوب” إلى “كاروب”.. وما شابه.
2. لدى البحريني حسين محمد الجمري أبحاث تأصيلية لقائمة طويلة من الاصطلاحات الزراعية والبحرية التي تشترك فيها البحرين والقطيف والأحساء. وقد نشر كثيراً منها في صحيفة “الوسط” البحرينية. وهي أبحاث جديرة بالاحترام، إلا أن البناء عليها بناءً تامّاً محفوف بمحاذير، خاصة في تلك المفردات التي تشترك فيها العربية مع لغات أخرى، إذ لا يمكن الجزم بأنها آرامية فحسب، أو أكادية فحسب، ويمكن ردّها ـ نظرياً على الأقل ـ إلى أصلها السامي.