[الدرّاسون 4] الديري الصفواني.. ختم القرآن في 100 يوم.. وأحب الشعر طيلة حياته سافر من صفوى إلى مكة المكرمة بحثاً عن الشريف الرضي
صفوى: أمل سعيد
طيلة عقود طويلة ظل صوته يصدح بتلاوة القرآن الكريم، ورغم ثقل السنين التي جعلته لا يستطيع أن يرفع صوته بالتلاوة كما كان، ظلت كلمات الله ترافقه في دروسه حتى وإن خفت الصوت.
إنه السيد محمد الديري، ابن صفوى، ودارس القرآن الكريم الذي بدأ رحلته مع كتاب الله مبكراً، كما غالبية أقرانه، الذين ما إن يبلغوا الخامسة أو السادسة، حتى ينضووا تحت جناح “مْعَلّم” ـ إن كان ولداً ـ أو “مْعَلّمَة” ـ إن كانت بنتاً ـ لدراسة أُسس القراءة (الحروف الهجائية)، ومن ثم حفظ القرآن الكريم.
“صُبرة” استطلعت سيرة الديري، وحاولت التعرف على الجوانب الأخرى من حياته مع عشقه الأول/ القرآن الكريم، فكانت هذه الحصيلة:
خوف الحسد
عن بدايته مع القرآن الكريم، يقول الديري إنها بدأت وهو في سن السادسة، عندما أخذته أمه للملا عبدالله بن حسين الداوود لتعلم القرآن مع (الوليدات)، ودرس على يديه، حتى حفظه كاملا في 100 يوم.
وفي لحظة صفاء مع الذات، يعود الديري بذاكرته للوراء قرابة ثمانية عقود مشيراً إلى أنه بعد حفظه القرآن، استشارت أمه الملا عبدالله الداوود عن نيتها في تعليمه الكتابة عند الملا هاشم بن شرف، إلا أنه رفض ونصحها أن لا تفعل منعاً للحسد، ويضيف بأسى: “أخذت أمي بكلامه وأحجمت بعد أن كانت متلهفة لتعليمي، فوجدت، من تلك اللحظة، في نفسي عليه، حيث شعرت أنه حرمني من تعلم الكتابة”. ليمكث بعدها قرابة الـ5 سنوات، دون تعلم الكتابة، خوفاً عليه من عيون الحاسدين، رغم أنه كان يقرأ كل ما يقع تحت عينيه، وعندما بلغ سن الثانية عشر تعلم الكتابة عند ملا صالح حمدان، منذ هذه الحظة، نشأ الديري حافظاً لكتاب الله، ومتقناً للكتابة.
الاختبار والتنازل
يكشف الديري لـ”صُبرة” أنه تزوج وعمره 25 عاماً، ورزقه الله بولدين وثمانٍ من البنات، لكن القدر اختار ولداً وبنتاً منهم، فترك ذلك ندوبا في قلبه، قبل أن يفجع بوفاة زوجته وشريكة دربه، فكان ذلك حدثاً واختباراً مفصلياً في حياته.
يضيف أنه بعد زواج الأولاد واستقلال كل منهم بحياته، بقي وحيداً في المنزل يتعهده أولاده بالزيارة والرعاية بين الحين والآخر، إلا أن إحدى بناته أصرت أن يسكن معها، وفعلاً انتقل للعيش في منزل ابنته، لكن الحدث القاسي على نفسه، كان تنازله عن مكتبته الأثيرة وأعطائها لابنه، لذا يقول بحزن: “كانت مكتبتي تضم عدداً كبيراً من الكتب التي قرأتها وأحببتها، وجمعتها على مدى سنين عمري، لكن لم يعد لها مكان فأعطيتها لابني سيد علي”.
تقلب بين المهن
تقلب الديري في شبابه بين مهن عديدة فمن بحّار إلى بنّاي يعمّر البيوت إلى مسؤول عن البنائين في رفحة وتبوك، يصف هذه الفترة من حياته بقوله: “أمضيت في تبوك سنتين، مسؤولاً عن عمال البناء، ثم عدت لصفوى واشتغلت في المقاولات في مؤسسة حسين كاظم، وبعدها امتهنت الأعمال الحرة متعاقداً مع أرامكو برفقة كل من شرف اللحام وسعيد تقي وعلي عبد الحسين”.
الثواب المرتجى
ومع كثرة قراءته القرآن، إلا أنه لا يقبل أن يدرسه بأجر، وإنما اعتاد أن يتعهده ليهب أحبائه وأهله ومعارفه ممن انتقلوا للحياة الآخرة زاداً يتقوون به، ونفحات رحمة تعينهم للوصول إلى جنات النعيم، فيقول: “كل ختمة أنهيها أسأل الله أن يتقبلها، وأهدي ثوابها لأبي وأمي وزوجتي وأولادي وأحبتي، وأشرك المؤمنين في الثواب”.
وعن تلاوته القرآن في شهر رمضان يقول بلهجة حادة ” نزل القرآن في رمضان لكنه لم ينزّل لرمضان، لنقرأه في هذا الشهر وننساه في بقية السنة”، ويضيف “أنا أتلو القرآن طوال السنة، فما تنتهي ختمة حتى تبدأ أخرى، وإن كان لتلاوة القرآن في رمضان أثر أعمق”.
لذا على جانب مصلاه البسيط، يستقر القرآن الكريم أنيس خلواته الطويلة، والتي زادت بعد تقدمه في العمر، يستمتع الديري بقراءة قرابة أحد عشر جزءاً كل يوم ـ تزيد أو تنقص قليلاً ـ ويؤكد “كل يوم أدرس ما تيسر لي، وليس في رمضان وحده، وتتركز أوقات التلاوة بعد الفجر وبعد صلاة المغرب، حيث السكينة والهدوء”.
أدب على تجاعيد الـ90
أما في نواحي غرفته فتنتشر كتب التاريخ والأدب لتهب زائره فسحة من المتعة والدهشة، فخلف تجاعيد سنوات شارفت على الـ90 يتوارى شاعر وعاشق للقراءة “كتبت الشعر صغيراً، وكم نهاني والدي عنه دون جدوى، فكان كلما رآني أكتب الشعر أخذ الورق ومزقه، ولم يكن ذلك ليغير في الأمر شيئاً”، ويكمل “كنت أكتب الشعر الفصيح والنبطي”، ويستدرك “الشعر مرض متعب، حتى أني أحياناً لا أنام الليل عندما تجتاحني قصيدة، ولأن الشعر مرتبط بالسهاد والسهر، أنهيت علاقتي به وهجرته منذ زمن”.
ربما هجر الديري الشعر لكن الشعر لم يهجره، فبالقرب من سريره ورقة كتب عليها:
يا الله سألتك يا فرج كل محتار
ضاقت عليّ حتى لساني عصاني
سهران طول الليل أدوّر بالأفكار
من كثر تفكيري فقدت المعاني
قال عنهما “هذان بيتان من الشعر النبطي كانت فكرتهما تراودني قبل يومين فكتبتهما”.
بحث عن العشق
وعن ولعه بالكتب، يذكر الديري “بدأت قراءة الكتب مبكراً، منذ أن كان عمري 10 سنوات، ونما العشق في داخلي فكلما زاد عمري زاد شغفي بها”، ويتذكر أنه في شبابه كان يبحث عن ديوان الشريف الرضي لكنه لم يجده في القطيف ولا في أي مكتبة في الشرقية، فقاده الشغف للسفر بحثاً عنه، يقول ” كنت أعلم أنه موجود في مكتبة الحرم، فخرجت من صفوى عاقداً العزم على الذهاب إلى مكة، وصلت الطائف وأحرمت ودخلت مكة معتمراً، وبعد أن أنهيت مناسك العمرة ذهبت من فوري إلى المكتبة لأحظى بالكتاب الذي شغلني، وجئت من أجله”.
لحظة ضياع
كلما أزرع زرعاً فسدا
وأرجّي الحظ أن يستعدا
وخليلاً كلما جئت له
أبتغي القرب لديه ابتعدا
هذان البيتان كانا مطلعا لقصيدة كتبتها في شبابي، نسيتها تقريباً، ولم يتبق منها في ذاكرتي سوى بضع أبيات تراودني أحياناً”.. هكذا يقول.
ومن غير قصد يأخذك دارس القرآن لما هجره من سنوات ـ حسب زعمه ـ وبنبرة تحمل في طياتها مسحة من ندم يذكر الديري أنه كان عازما بالفعل على طباعة شعره في كتاب، يحفظ فيه روحه الشاعرة، لكن مشيئة الله حالت دون تمام ذلك، يشرح لنا أكثر بالقول: “قبل سنوات طويلة، كانت طباعة الكتب هنا متعسرة جداً، لذا جمعت كل ما كتبت، وكان بحجم ديوان كبير، وأعطيته للشيخ صالح.. الذي كان يداوم على الذهاب إلى الشام، وطلبت منه طباعته، لكنه بعد عودته فاجأني أو ربما أحزنني، بأن أوراقي ودفاتري ضاعت”.
يصف لنا شعوره لحظتها بالقول: “ضاع الديوان الذي أعده، وضاع معه وهج القصائد التي رسمت أفراحا وأحزانا وأحاسيس شاعر لسنوات طويلة”.
رفقاء الكلمة
يتوقف الديري قليلاً في معرض حديثه عن الشعر والكتب والشعراء، ليسرد لـ”صُبرة” أسماء بعض من كانوا على مقربة من الروح، يقاسمهم خبز الشعر، ويقاسمونه الارتواء من نهر الكلمات، فيذكر “كنت ومكي خميس وعبدالله بن عبدالرحيم وحسين صلاح، رحمهم الله جميعاً، نجتمع معاً، ونتعاطى الشعر” ثم يختتم بآهةٍ طويلة تحمل في طياتها ذكريات قرابة قرن من الزمان متنهداً “هؤلاء هم رفقاء الروح”.