أبكيتَ حتى السائق “فيروز” يا سعيد هزيم أحبه الناس لأنه تذكّرهم حين استغنى

إعداد: فتحي عاشور، تحرير: صُبرة
في جانبٍ من مغتسل الموتى؛ كان بكاء السائق “فيروز” يختلط بصوت تلاوة القرآن الكريم. رحيلُ “أبو مالك” حدثٌ كبيرٌ عند سكان جنوبيّ القطيف. وانتشار خبر وفاته؛ له أثرٌ يجعلهم يتوافدون على موقع المغتسل لإكرام الرجل الذي طالما أكرم مجتمعه، وسعى في الخير نحوه. ومن الطبيعي أن تتشح الوجوه بمسحة الحزن. تلك طبيعة بشرية.

لكن الذي لفت نظر الناس عند المغتسل؛ هو بكاء “فيروز”.. كأن السائق الآسيوي يبكي في يوم وفاة والده. من الصعب سؤال هذا الفاقد الباكي بحرقة قلب وحرارة عين عمّا وراء إجهاشه المتواصل. من يعرف “سعيد هزيم”؛ فإنه سوف يفهم لماذا يبكي عليه “سائق” من العاملين لديه إلى هذا الحد. لم تكن العلاقة بين “سعيد” و “فيروز” علاقة كفيل بمكفول.. كانت أعمق من علاقة “عقد العمل” وأداء الواجب..!

ابن الشويكة
نشأ الحاج سعيد هزيم في بيتٍ صغير، في “الشويكة” التي كانت قرية جنوبي القطيف، قبل أن تندمج القرى الصغيرة وتتحوّل إلى أحياء ضمن حدود المدينة. تفتّحت مداركه الأولى بين كادحي القرية المعروفين بالزراعة والأعمال الحرفية. بدأ عوده يشتدّ والناس ما زالوا متأثرين بتبعات الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945. مواليد الأربعينيات الميلادية صقلتهم أثقال الحياة وصدماتها وصعوباتها، أكثر من غيرهم. واجهوا الجوع والبرد والحرّ، وأزمات الحاجة، وحقائق الكدح والتعب الذي لا يرحم..!
خاض “سعيد” تجربة حياته محاولاً أن يتعلّم قدر ما يستطيع. إتقان القراءة والكتابة ميزةٌ مؤثرة لأبناء ذلك الجيل، خاصة الآتين من قرى الريف. ولذلك؛ مكنه تعليمه المحدود، وقتها، من أن يحصل على وظيفة في البلدية. لكنّ “سعيد” يعرف أنه ابن رجلٍ لديه مهنة تستحق العناء. مهنة نقل الحجّاج والزوّار. تلك مهنةٌ صعبة، لكن “سعيد” ما زال شابّاً، وفي بعضٍ من وقته القدرة على ممارستها. اشترى حافلة صفراء، والتزم العمل فيها، ناقلاً الحجّاج إلى المشاعر المقدسة في كل موسم حج، أو مسافراً بالزوّار إلى العراق.
لكنّ عمله في البلدية أخذ يتطوّر في جانبٍ آخر. الموظف الصغير نما. الشاب “لـِسْوَيچي” طوّر من نفسه، وصار متعلماً أكثر من وقت حصول على الوظيفة. ربما كانت الوظيفة عبئاً على الشاب الذي يُريد أن يطوّر عمله في النقل والسيارات. لكن الزمن ليس له أمان. صحيح إن ابن السوق محظوظٌ أكثر بحرّيته، لكن الوظيفة الحكومية آمنة. التزم واجبات وظيفته المحاسبية، وحافظ على توازن عمله خارج الدوام.

مكتب سفريات
كان عقد الثمانينيات واعداً جداً لأصحاب الطموحات و “مكاتب السفريات”. ثم جاء عقد التسعينيات؛ فانتعشت السوق أكثر فأكثر، ومعها العقد الأول من الألفية الجديدة. في هذه المساحة من الوقت؛ خاض “سعيد هزيم” المغامرة، وراح يوسّع نشاطه يوماً بعد يوم. اكتسب “مكتب الهزيم” ثقة الناس والمؤسسات الأهلية والحكومية. صعد نجم “سعيد هزيم” بسرعة، خاصّة بعد تقاعده وتفرّغه لأعمال المكتب المتشعبة.. حقّق حلمه الذي راوده منذ جلس قبالة عجلة القيادة في الحافلة الصفراء الأولى..!

نصيب المجتمع
ولأنه ابن هذا الكفاح وهذه العصامية؛ فقد حدّد موقعه بدقة من مجتمعه الذي يعيش فيه. كلّ خيرٍ يدخل في جيبه؛ يكون لأبناء مجتمعه نصيبٌ منه. هذه هي شهادات الناس عنه. كأنه يغسل تعبه من العمل بمساعدة الناس. وأمس قال عنه السيد مصطفى الشبركة إن له أياديَ كثيرة في مساعدة الشباب على الزواج. وذلك سطر من صفحةٍ طويلة كتبها في حياته، كثيرٌ منها بحبرٍ سرّي، وبعضها قرأه الناس في حياته، ويتذكرونها بعد وفاته. حتى أنه كان يتدخّل في الإصلاح بين الناس، ويدفع من جيبه لإنهاء الخلاف إذا كان مالياً، ولذلك كان يقصده الناس حكماً للصلح، ويعرف كثيرٌ من الأيتام والفقراء من أهل الشويكة دوره ومبادراته.
يعرف الناس كرمه في مشاريع الخير الكثيرة، ودعمه للمؤسسات الأهلية، وتواصله مع مجتمعه في أفراحه وأحزانه. حتى بعدما أقعده المرض على كرسي متحرك؛ أصرّ على استمرار التواصل. وحين يُعييه الأمر يكلّف ابنه البكر “مالك” بالذهاب إلى بيت “فلان” أو “فلان” مباركاً في زواج، أو معزّياً في وفاة، باسمه شخصياً، وإبلاغهم اعتذاره عن الحضور.

الجاد المتفكّه
بقدر ما كان “أبو مالك” جادّاً؛ كان ـ أيضاً ـ خفيف ظلٍّ تُضحكه الطرف، ويرويها، ويتبادلها. وبهذه الروح؛ عامل أهله وجيرانه ومعارفه، بل غلّب روح الفكاهة حتى على علاقته بالعاملين معه. لم تمنعه صراحة القياديّ من أن ينشر ابتسامته ونكاته في المكان الذي يكون فيه. ولأنه “سائق باص” سابق؛ عامل السائقين بأسلوب من يعرف متاعبهم وشقاء ما يقومون به. كأنه أبٌ، أو أخٌ أكبر. كان صارماً، لكن إنسانيٌّ جداً. وحازماً ولكن فيه من اللطف ما يكفي لأن يُحَبّ ويُطاع بهذا الحب.
رحل سعيد هزيم معطّراً بسيرة “نشمي” من “نشامى” الشويكة، والقطيف. سيرة رجل شقّ طريقه بصبر وثبات وإصرار. سيرة رجل لم يبخل على مجتمعه. سيرة رجل بسيط يهمّه إقامة الأذان في مسجد الشيخ علي المرهون الملاصق لمنزله. سيرة رجل صار يؤذن من مجلسه حين عجز عن الذهاب إلى المسجد.

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×