الفيديو آرت .. رمزية الصور وانعكاس المكان
يوسف الحربي
كثيرا ما تتناول الفنون المعاصرة فكرة “المكان .. الصورة” بمفاهيمها الذهنية وتأثيراتها البصرية من خلال استثارة الأبعاد الذاتية والعامة بكل تداخلاتها، وتسليط الضوء على المكان في الأعمال الفنية البصرية، يعدّ بعدا عميق التعبير والتجسيد، يستفز المتلقي للبحث والتفسير عن موتيفاته المرئية التي تتدفق في الحواس من خلال المفهوم والمقصد والمعنى.
وقد طرح الفيديو آرت هذه المفاهيم الخاصة بالمكان بأسلوبه المتنوع وتماهيه معه حيث ابتكر لها علامات استوحاها من الذاكرة والاسترجاع والتفاعل كفعل ذاتي وعام ليحيل المتلقي بجماليات الحلم والحنين والشجن وتأملات الماضي بعين الحاضر.
ولعل التجارب التي اعتمدت رمزية المكان وعلاماته البصرية في الفن التشكيلي ككل وفي الفيديو آرت بالخصوص متعددة حسب كل فنان ورؤاه.
ومن التجارب القريبة والجديدة والمبتكرة التي خاضت فكرة المكان ورمزياته بصريا في الفيديو آرت وتأثرت بتجارب عالمية ومنها انطلقت نحو فضاءاتها التعبيرية الخاصة ومنها التجربة السعودية التي تمثلت في أعمال المخرجين والفنانين محمد سلمان وفهد القثامي.
يختلف الفيديو آرت عن التعبيرات التشكيلية المألوفة فهو يعتمد على الفكرة ومفاهيمها البصرية التي تبدأ في اللقطة وتترسخ في الذهن وهو ما يحيل على مخزون ذاكرة محمّلة بالتفاصيل والأطر ومن بينها المكان فباختلاف الأساليب تمّ تناول فكرة المكان فلسفيا وجوديا كما في أعمال بيل فيولا أو أعمال عادل عابدين ومنى حاطوم فالمكان ترسّخ حسب الموقف والمشاعر والتوجه والبحث الذي يستدرج المفاهيم إليها مقتلعا إياها من جذورها المجردة إلى عمق فضاء السرد البصري، وتجدر الإشارة أن هذه التجارب العالمية أثرت في الكثير من التجارب الخليجية والسعودية.
فقد تبدو المقاربة بين تجربتي سلمان والقثامي متنوعة الدلالات من حيث التعبير، إذ يحمل فهد القثامي نظرة مختلفة في التعبير والأسلوب فهو لا يصور لمجرد التفسير بل يخلق من الحلم أمكنة ومن التذكر حنينا وأحاسيس يسكن فيها عناصره فتلامس المشاهد فكريا بفلسفته الوجودية ومواقفه الإنسانية رغم واقعيته التي تلامس الحواس بالحنين للأمكنة وحفر الأزمنة بتفاصيل السرد المكاني للأطر الذي يتحول بها من الاعتيادية إلى فضاءات يخوض فيها انطلاقه ويروض ذاكرته بما يليق وذاكرة مكانه.
فخلال تلك التوليفات يُنشأ الفيديو ويحرّك الصورة بتفاعلاتها الزمانية والمكانية فيعطيها أدوارا ففي فيلمه “حكاية مسامير” منح المسامير أدوارا تفاعلية حوّلتها من أداة مهمّشة إلى عناصر فاعلة بقصة وأمكنة ومراحل زمنية أخضعها لسرمدية حياة تشبه حياة الانسان في المكان انبعاثا لرؤى تنوعت علاماتها وحاكت بصريا فلسفة الرمز لتقع على صدمات الوجود وتناقضاته بين اختلاف المكان والمراحل بين الحنين والتذكر بين الاجتماع والفراق فهو يقدّمها بانوراميا في فيديو أعد له أسلوب “السينما التشكيلية” بين النحت والحفر والأداء والتجسيد والتحريك فكأنه استنسخ المكان من ذاكرته الى مكان آخر جسّدته عناصره البصرية من خلال أبعاد الضوء والصوت والشكل فكان المكان مألوف السرد غرائبي المحمل.
فالمكان عنده أفق وانطلاق قيود تبحث عن التحرر من التذكر والذاكرة تبحث عن الأطر لتغادرها.
أما المخرج الفنان محمد سلمان فيتعمّد الباس الحنين على الذاكرة لتبعث في المكان أحاسيس دافقة المعاني فالمكان عند محمد سلمان هوية وانتماء تفاصيل يومية لها عمقها المتناغم مع إيقاع الحكايات، يطرحه بشمولية باحث قلق داخل الأطر عن شخصياته من المكان من الطبيعة من الطفولة من الماضي من كل ما يحوّل الصور إلى رمز مكاني لا يشبه أي فضاء آخر.
يستنطق السلمان أحاسيس الذاكرة في الفعل والآداء، فيستخرج علامات بصرية تحيل على الواقع والوطن بهويته المألوفة وملامحه التي تبعث في الروح سكينة الانتماء، أما الدلالة البصرية في أفلام القثامي فهي أعمق وجودا وفلسفة تلامس التأملات الذهنية في تفعيل المكان سرمديا وتحويله إلى فضاء مألوف بشخصيات يحركها بحيوية بمسوؤلية وحيوية لتتقمص أدوارها.
سواء في عمل محمد سلمان أو القثامي هناك فلسفة عميقة داخل الصورة كل يراها بأسلوبه وهذا التنوع هو الذي نوّع الفيديو وتصوراته، فالتفاصيل الوجودية والواقعية التي تحمل جمالياتها تفرضها على أبعاد المكان فترسخ صورها وتتجاوز الفضاء الجاهز إلى فضاء له معنى وحكايات لها دلالتها ومقاصدها الفنية.
* كاتب في الفنون البصرية، مدير جمعية الثقافة والفنون في الدمام.