حمْلَدارْ من زمن “الشاحنات” يتذكر: تكلفة الحجة 150 ريالاً فقط السليمان حجَّ في زمن الملك سعود وتعلّم "الشغلة" من أول مرة

ضاعت عندهم حاجّة ضريرة.. ولم يُعثر عليها إلا بعد عامٍ كامل

خاص: صُبرة

الصور: من صبحي الجارودي

لا يتذكّر الحاج سليمان السليمان تكلفة حجته الأولى، لكنه يقول إنه أدّاها في زمن الملك سعود، رحمه الله. وأن وسيلة النقل كانت شاحنات مكشوفة، واحتاج الحجاج فيها إلى 4 أيام بلياليها ليقطعوا المسافة من القطيف إلى المدينة المنوّرة. والأهم من ذلك؛ كانت الحجة الأولى بمثابة دورة تدريب مكثفة له، خرج منها بقرار غيّر حياته، فصار “حَمْلَدارْ” ينظّم رحلات الحجّ والعمرة، وزيارة النبي في المدينة، والعتبات التي يقصدها الزُّوار في العراق وسوريا وإيران. احترف كل ذلك على مدى 31 عاماً، قبل أن يمنح نفسه تقاعداً عام 1411، تاركاً العمل لابنه الأكبر “حجّي علي”..!

19 حافلة

“الحج تعبْ يا خُوك”.. هذه هي خلاصة تجربة الرجل الذي ناهز عامه الحادي والتسعين. بدأ باستخدام “الشاحنات”، ثم الحافلات الصفراء، وحين ترك ميدانه كان الحجاج قد وصلوا إلى الطيران والحافلات المكيّفة. فروق هائلة بين تلك الحجة التي انطلقت من “شريعة البدراني”، وبين الرحلات التي راحت تتطور عاماً بعد عام. حين التقيناه في منزله البسيط؛ ذكّره ابنه الذي كان يساعده ببعض ما نسي. ذكّره بأطول حملة تولّاها.. كانت مكوّنة من 19 حافلة، من حجّاج القطيف.. ما يعني أنه أدار ـ في تلك السنة ـ شؤون قرابة 1000 حاج..!

من البدراني

من الموقع الذي كان يُسمّى “شريعة البدراني”؛ انطلقت السيارة التي حملته إلى الحجّ أول مرة، مع الحملدار حبيب السيهاتي، من سيهات. و “شريعة البدراني” هي المكان الواقع غرب نادي المحيط في الجارودية حالياً. كانت هناك محطة أخرى تقع شماليّها هي “أبو السعد”.. والحجاج ينطلقون منها أيضاً. كانوا يُبحرون في رمال ليس فيها طرق مسفلتة. سارت بهم الشاحنة حتى وصلوا إلى الرياض، وفيها استعانوا بـ “امْدَلّي” من البدو يُرشدهم إلى الطريق. ذاكرة الحاج سليمان لم تُسعفه بذكر محطات التوقف. لكنه قال إن الحجاج يتوقفون في أوقات الصلاة، ويمكثون طويلاً، ويطبخون ويستريحون قبل استئناف الرحلة.

حجاج ومُنقذون

كان “فرحان بالحج”، كما يقول.. والوقت خريف، لكنّ الشاحنة تتعطّل كثيراً. ينزل الحجاج كلهم من الشاحنة ليدفعوا بها ويُخرجوا عجلاتها من الرمال. ثم يركبونها، وبعد مسافة تقل أو تقصر، ينزلون لدفعها وإخراجها من الرمال. على هذه الطريقة يسير وضع السيارات في ذلك الزمن. ذات حجة ـ يقول الحاج سليمان ـ علقت عجلات الشاحنة في الرمال، وتعطّلوا لأكثر من يومين. كان ذلك بعد مدينة الرياض بـ 18 كيلومتراً.

كان السفر حقيقياً حتى بعد دخول المركبات.. ولكن “حجي سليمان” وجد مهنة واعدة جداً في أواخر خمسينيات القرن الماضي. لم يكن في القطيف كلها إلا عدد قليل جداً من الـ “حَمْلَداريّة”، يذكر منهم: حبيب السيهاتي في سيهات، وحميد الشيخ في القديح، وبن عباس في الشويكة. ذلك أخبره بأن قريته “الجارودية” والقرى المجاورة في حاجة إلى هذه الخدمة، اقتنص الفرصة، وسيّر أول “حملة” له في العام التالي لحجّته الأولى. قال لـ “صُبرة” إنه تقاضى 150 ريالاً عن كل حاج. وحين وصلت “الباصات” رفع المبلغ إلى 300 ريال، مع وجود خيار الشاحنات بـ 150 ريالاً.

الشيخ عبدالمجيد أبو المكارم
الملا حسن شهاب

مرشد وطباخ

استعان بالملا حسن شهاب مرشداً في الحملات لسنواتٍ طويلة. ولكن قد يرافقهم الشيخ عبدالمجيد أبو المكارم، رحمه الله، في بعض الحملات. وكان يشكّل فريقه ويستعد للسفر قبل مدة، و “يتقاطع” مع الحجاج و “الكادر” الذي كان بسيطاً جداً. الحجاج يخدمون أنفسهم بأنفسهم، وهو يوفر النقل والسكن والإطعام. وطبّاخه الأطول مرافقة له كان اسمه أحمد الكفيري. كان يسافر برفقة زوجته. وهو “فنان” في الطبخ. وهو يتولّى إعداد 3 وجبات في اليوم، بما في ذلك الوجبات التي يتناولها الحجاج أثناء توقفهم والاستراحة. زادت أجرة الطباخ عاماً بعد عام إلى أن وصلت إلى 500 ريال، وهو مبلغ طائلٌ في وقته.

الوجبات تركّز على “العيش”، ولكن رغبات الحجاج تختلف، لذلك تتكرر وجبة “الصالونة” و “الكبسة”.. النساء يفضلن “صالونة اللحم” والرجال يفضلون “الكبسة”.. والرّغبات كثيرة ومختلفة.. في السنوات الأولى للحملات تضمنت الوجبات الربيان المجفف والسمك المجفف.. “الحلّى”.. كلُّ شيء يُحمَل من القطيف، ويُطبخ طيلة السفرة.. لكن “الحملدارْ كلْ شِيْ عندَهْ عسَلْ”.. المهم أن يأكل الحجاج، أيّاً كانت الوجبة.. هناك تفاصيل كثيرة يتابعها، هناك مئات من الناس يدير شؤونهم.. هناك مشاكل..!

حاجة مفقودة

في إحدى السنوات؛ فقدوا حاجّة ضريرة. التحقت بالحملة برفقة محرم لها. أخذها إلى الحرم المكي، استأجر لها كرسياً متحركاً، وطاف بها طواف الوداع. وبعد إتمام المنسك؛ فقدها. استنفرت الحملة وحجاجها بحثاً عنها. عادوا إلى الجارودية آيسين من العثور عليها. لكن مرافقها تردّد على مكة المكرمة بعد الحج لعلّ وعسى. يئس هو الآخر، وأيقن أهلها بأنها توفيت، أو شيء من هذا القبيل. ثم حدث ما لا يمكن أن يحدث إلا في الأفلام.. عثروا عليها في العام التالي.

بعد فقدانها؛ لاذت المرأة بمحيط الحرم، وبقي الناس يُطعمونها عاماً كاملاً، من دون أن تفعل هي أي شيء يمكن أن يعيدها إلى قريتها. حدثت القصة أواسط السبعينيات..!

الغاسلة المفقودة

الفقد ليس أكثر مشاكل الحملدار إزعاجاً. هناك الموت. سيدة أخرى من الأوجام توفّيت بعد سقوطها في الطواف. حاروا في أمرها واحتاجوا إلى “مغسّلة موتى”. أشار عليهم بعض الحجاج أن يستعينوا بسيدة في حملة حجاج سيهاتية. يقول الحاج سليمان “رحت للحملة وسألت عن المرَهْ.. قال لي الحريم: ما نعرف.. نضحك.. لو نبكي.. المرهْ مفقودة من 5 أيام”..!

وهنا حدث ما لا يحدث إلا في الأفلام.. عادت المرأة المفقودة في الوقت الذي ذهب ليسأل عنها. عادت المرأة مُنهَكة. مع ذلك؛ حين علمت بحاجتهم إلى “تغسيل امرأة”.. طلبت منهم الانتظار قليلاً فقط، ثم رافقتهم وغسّلت الحاجة المتوفاة.. كانت موقف “شِيمة” كبيراً.

الحاج سليمان في سنوات الكهولة

حج التعب..!

الفروق هائلة أيضاً بين خدمات حجاج الأمس وحجاج اليوم. كان الحاج سليمان يُسكن الحجاج في “خان”. يتذكر أن “خان حمزة حسون” هو خياره الأول في المدينة المنورة. ثم تعاقد مع “قصر السرور” لاحقاً. سكن الخان يجمع الحاجات جميعهنّ في شقة، والحجاج في شقة أخرى. لا أحد لديه غرفة خاصة. حتى العائلة الواحدة تنقسم بين الشقتين. هكذا تسير الأمور في كل حملات الحجاج في تلك السنوات. لا وجود لأي شيء يمكن وصفه “رفاهية”.. الجميع يتعبون.. الحجاج يتعبون.. “الحملدار” يتعب..

حوار بين الحاج سليمان وابنه الحاج علي الذي خلفه في العمل
4400 ريال أجرة حج شخصين سنة 1406هـ.
حج سنة 1408هـ، بـ 3500 ريال فقط.
حج 1413، الطائرة بـ 4500 و الحافلة المكيفة بـ 4000 ريال

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×