[3-2] بداية تأسيس الفرق الموسـيقية في المملكـة العـربيـة السـعـوديــة
محمـد السـنان*
لقد توقفنا في الجزء الأول من المقال عند الحجاز حيث كانت ولا تزال تعتبر الرائدة في مجال الفنون الموسيقية في المملكة العربية السعودية، ومنها برز عمالقة الغناء والتلحين الذين جرى ذكرهم.
في الجهـة المقابلـة للحجـاز، وعلى سـاحل الخليج العـربي تقبـع المنطقـة الشـرقية وهي التي تمثل أكثر من ثلث مساحة المملكة. وهي تحتضن حضارة موغلـة في القـدم، تشهـد عليها الآثار القائمـة وكتب التاريخ. فمنها كانت الهجـرة الفينيقية للشمال، وفيها نشأ الشاعر الجاهلي الكبير صاحب معلقة (لخولة أطلال ببرقة ثهمد)، كما أنه كانت فيها حـركة القـرامطـة الذين نقلوا الحجر الأسود من الكعبة إليها…
فالمنطقة الشرقية لم تعـرف الموسيقى إلا من خلال المذياع الذي دخل إليها مع الربع الأول من القرن العشرين، والذي كان يبث برامجه الموسيقية وغيرها من إذاعات مصر والعراق والأردن وإذاعة الشرق الأدنى ومن ثم الكويت والتي لحقت بها البحرين فيما بعد. وقبل ذلك كان هناك أنواع من الفولكلور الشعبي الذي كان يغنى بدون مصاحبة آلات موسيقية، وهي أغاني البحارة والغوص والتي كانت تعتمد على الإيقاعات الراقصة التي عرفت بـ (الزفان)، وهو نوع من الرقص يقوم به الرجال يعتمد على تحريك الأكتاف والقفز والخطوات والدوران مع حركات الإيقاع التي كانت تعتمـد عـلى الطبول والدفـوف، والتي جاء أغلبها من أفريقيا مثل الفجري والنهامة والليوة وكذلك أهازيج البنائين.
في منتصف الخمسينات من القرن الماضي افتتحت أول إذاعة في الخليج وهي إذاعة الكويت الرسـمية، وكان ذلك عام 1951م. ولكنها لم تكن الأولى على مستوى الكويت. فقـد سبقتها إذاعـة (شـيرين) وهي إذاعـة محليـة افتتحها رجل الأعمال الكويتي مراد بهبهاني وذلك في عام 1948م، أي قبل افتتاح الإذاعـة الحكـوميـة بثلاث سـنوات، وسط أحداث سياسية متسارعة وتغييرات متتالية في الوطن العربي كان أخطرها احتلال فلسطين، وكان موقعها في دكان في إحدى العمارات التي كان يمتلكها بالقرب من ساحة الصفاة الذي كان يعرف آنذاك بـ «سوق بهبهاني»، بالقرب من سوق الغربللي الحالي، وسط العاصمة التجاري.
وقـد لقيت إذاعـة الكـويت شهرة واسعة في كافـة أرجـاء الخليج العـربي خاصة بعد انتشار أجهزة الراديو بين الناس، وأصبحوا يستمعون إلى المحطات الإذاعية الخارجية التي يصل بثها إليهم. ثم تلتها إذاعة البحرين التي تم تأسيسها في 21 يوليو عام 1955م تنفيذا لأمر من حاكم البحرين آنذاك الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة. وقد ساهمت هاتان الإذاعتان، الكويتيـة والبحـرينيـة في الترويج لما يعرف بـ أغاني (الصوت)، وهو لون من الغناء نقله من اليمن وطوره الفنان الراحل عبد الله الفرج بعد عودته لوطنه الكويت عائداً من مهجـره في بلاد الهند التي ولد وترعرع فيها حتى بلوغـه سن الخامسـة والأربعـين، واكتسب منها بعض أنواع الفنون الغنائية والموسيقية، وبذل كل ثروته في سبيل دراسـة الموسـيقى التي برع فيها وقام بتطويرها لكي تتوائم مع الكلمات العربية، معتمدا في ذلك على بعض عيون الشعر العربي كمقدمات لتلك الأغاني.
وقد قامت إذاعة الكويت بدور رئيسي في الترويج لهذا الفن الذي شـاع وانتشـر في إمارتي البحـرين والكـويت آنـذاك، ثم بدأ الناس في المنطقة الشرقية يتأثرون به ويمارسونه في حفلات الأعراس والمناسبات العامة، ولكن بدون مصاحبة آلات موسيقية، ذلك أن الموسيقى لم تكن مباحة في المملكة العربية السعودية في تلك الحقبـة الزمنيـة، كما أسـلفنا ذكـره، ولم يسمح بإدخال وتداول الآلات الموسيقية في البلاد بشكل رسـمي الا في عام 1962م.
الفـرقــة الفضيــة
بعد بضعة شهور من تلك التطورات المتسـارعـة التي أعقبت السماح بتداول الموسيقى وآلاتها في المملكـة، خـرج بعض من هـواة الموسيقى والطرب في مدينة الخبر، من مخابئهم السـرية ليمارسـوا هوايتهم في العلـن، بل أن بعضهم تحـفز لنشـر هـذه الهوايـة عـن طـريق النادي الأهلي في مـدينـة الخـبر آنذاك، وهـو ناد رياضي وثقافي واجتماعي، تبنى فكرة فتح صف لتعليم الموسيقى ليكون البذرة لتكوين فرقة موسيقية فيما بعد.
وقد عهد للمرحوم المايسترو توفيق جاد بالقيام بهذه المهمة بالتعـاون مع الفنـان والملحن وعـازف العـود عـبـد الرحمـن الرويعي.
لم يكن التعلم سهلا.. ذلك أن المايسترو توفيق جاد كان قـد اتبع في تدريس المنتسبين لهذه المدرسـة الأسلوب المنهجي العلمي، أي التعلم بالنوتة وليس السماعي. وتجـدر الإشـارة إلى أن من بعض التلامذة من كان يجيـد العـزف على آلات مختلفـة، فمثلاً: الأستاذ يعقوب الخليوي كان يجيـد العـزف على الآلات الإيقاعـية الغربية، والأستاذ زكريا الشيخ عازف آلة القانون والأستاذ عبد الرحمن الرويعي على آلة العود، ومنـذر توفيق جاد عازف على البيـانو. ولكن لم يكن أحد من العازفين الموجودين يعرف شيئا عن النوتة الموسيقية حينئذ، لذلك فقد بدأ الجميع من نقطة الصفر. وقـد عهـد إلى التلامـذة الجـدد تعلم العـزف على آلـة الكمـان لسـد النقص لهذه الآلـة في الفـرقـة. وكان من ضمن التلامـذة الذين أتقنوا العـزف على آلـة الكمـان في وقت قياسي جـداً: كاتب هذه السطور (محمـد الســنان) و (مبـارك عـنبر) الذي هاجـر وآثر الاسـتقرار في دولـة قطـر بعـد ذلك بعـدة أعـوام وانضم إلى فرقتها الموسيقية.
وبعد بضعة أشهر نجح المايسترو توفيق جـاد في أن يقطع شوطا كبيرا في إتقان تلامـذتـه عزف بعض المقطوعات الموسيقية لمحمد عبد الوهاب وبعض المقدمات الموسيقية لأغاني أم كلثوم، هذا إلى جانب بعض الأغاني التي لحنها وغناها عبد الرحمن الرويعي، فقد كان بحـق إنجازاً باهراً للمايسترو توفيق جاد وكان فخور بذلك الإنجاز.
ثم بدأ يفكر في تكوين فرقة موسيقية يكـون التلامذة بواكير العازفين فيها.. وقد أطلق عليها اسـم “أوركسترا الخبر”. وكانت الفرقـة تضم بالإضافـة للعازفين مغـن موهـوب كان يقـوم بأداء الإسكتشات والمنلوجات الساخرة وهو الفنان “عـلي التميمي”، بالإضـافـة إلى ثلاث طفلات لم يتجاوز أعمارهن الثمان أو التسع سنوات، وكن يؤدين وصلات غنائيـة لأم كلثـوم في منتهى البراعة والإتقان، مثل “أمل حياتي” و “أنت الحب”.
وقد قامت الفرقة بتسجيل عـدة أعمال غنائية وموسيقية لتلفزيون شـركـة أرامكو، حيث كان هـو التلفزيون الوحيد في المملكة آنذاك. ثم تحول اسم الفرقة فيما بعد إلى “الفرقـة الفضية” بعد ان أصبح العازفون متمكنين ومتوافقين في الأداء.
وبهـذا يكـون تلفـزيون أرامكو قـد لعب دوراً كبيراً ومهماً في الترويج لأعمال الفـرقـة وبالتالي إلى شـهرتها، باعتبــاره التلفـزيون الوحيــد في المملكـة ودول الخليج، والثاني على مسـتوى العـالم العـربي والشـرق الأوسط بعـد التلفـزيون العـراقي. ذلك أن العراق بدأ إرساله التلفزيوني الأول في صيف عام 1957، وبعـد ذلك ببضعـة أشهر، وبالتحـديد في السادس عشر من سبتمبر من عام 1957م بدأ أول بث تلفزيوني لمحطـة تلفـزيون أرامكـو.
وقد اتخذت الفـرقـة زياً موحداً عبارة عن سراويل ومعاطف حمراء زاهية ووردة العنق (الفيونكه) وبذلك أصبحت “الفـرقـة الفضيـة” هي أول فرقة موسيقية أهليـة يتم إنشاؤها على مستوى المملكة.
في الفترة من 1965 إلى 1967م، التحق بالفرقـة أعضـاء جـدد مثل الأسـتاذ صالح العبـاد، الـذي اعـتزل الفن منذ ما يزيد على أربعين عاماً والذي كان يتقن العـزف على آلـة العـود، وحسـن السـنان، وهـو شقيق محمـد السـنان (مؤلف هـذا الكتاب) والذي تعلم العـزف على آلـة العـود في وقت لاحـق من خلال التحاقـه بالفرقـة أيضاً، وعازفون آخرون على آلات مختلفـة، بالإضافـة إلى مغنين مثل: عبـد العزيز التمــار، وغيرهم.
لقد ذاع صيت الفرقة الفضية على مستوى المملكة من خلال الحفلات التي كانت تقيمها لنادي الضباط في قاعدة مطار الظهران، وكذلك حفلات رأس السـنة الميلادية التي كانت تحييها شركة أرامكو.
كان عام 1965م، هو العام الذهبي للفرقة، حيث كانت الفرقة تسجل لتلفزيون أرامكو حفلات شهرية، وكان المردود المادي مجزياً، استخدم جزء منه في تطوير الفرقة وشراء الآلات والمعدات والبذلات، الأمر الذي وضع الفرقة في مصاف الفرق العربية المحترفة ، مما شجع شركة أرامكو أن تطلب منها المشاركة مع فرقة المغني الأمريكي المشهور “كيني روجرز” الذي استقدم من أمريكا لإحياء حفل رأس السنة الميلادية في نادي الترفيه بحي كبار الموظفين، وكان ذلك – إن لم تخني ذاكرتي- في عام 1995م. فقد كانت الفرقة تتناوب مع فرقة كيني روجرز كل 45 دقيقه.
وتحضرني مناسبة قد لا تكون أقل أهمية من مشاركة الفرقة مع “كيني روجرز”. ففي عام 1963م، بينما كانت الفرقة تحيي إحدى حفلاتها في نادي الضباط بقاعدة مطار الظهران، إذ تقدم أحد الضباط المشرفين على الحفل وهمس في أذن المايسترو توفيق جاد، ثم خرج وعاد ومعه رجل أسمر اللون وصبي يرتدي كل منهما ثوباً وغترة وطاقية بدون عقال، لم يكن أحـد من الحاضرين أو أعضـاء الفرقـة آنذاك يعرف أياً منهما. وبعد أن صافحـا المايسترو وأديا التحيـة لجميع الحضـور، أخذ المايسترو توفيق جاد المايكروفون وأعلن انه يوجد لدينا ضيفان من مدينة جدة، وقام بتقديمهما الينا قائلا: هذا هو الأستاذ عمر كدرس عازف الكمان في فرقة إذاعة جدة وهذا الصبي هو موهبة مكتشفة من الأستاذ عمر كدرس وهو يمتاز بصوت جميل وقوي واسمه (محمد عبده). ثم تناول عمر كـدرس الكمان من المايسترو توفيق جاد وأخذ يعزف إحدى الأغاني التي لم تكن معروفة لدينا عنـدئذ وتبعه محمد عبده بالغناء وقد نال استحسان وإعجاب كل الحضور بمن فيهم أعضـاء الفرقة الموسيقية.
لقد كان محمد عبده في بداية مشواره الفني آنذاك وكان في زيارة إلى المنطقة الشرقية مع الفنان عمر كدرس بهدف تسجيل بعض أغاني محمد عبده لتلفزيون شركة أرامكو مثل “سكة التايهين” التي لحنها له الموسيقار طارق عبد الحكيم.
لقد استمر نشاط الفرقة الفضية حتى عام 1967م، أي بعد نكسة حزيران الموجعة التي كان من ضمن نتائجها ابتعاد الكثير من الناس عن أجواء الموسيقى والغنـاء وأصبحت تداعيات النكسة هي الشاغـل الوحيد لدى غالبية الناس. كما أن بعض أعضاء الفرقة الذين كانوا يعملون لدى شركة أرامكو قد اتيحت لهم فرص الابتعاث للولايات المتحدة الأمريكية لمواصلة تحصيلهم الجامعي، مما أفرغ الفرقة من كثير من أعضائها البارزين، الأمـر الذي أدى إلى انحلالها تماما.
ومما يؤسف له أن كل تسجيلات تلفزيون أرامكو قد تم تسليمها إلى محطة تلفزيون الدمام عام 1969م، إلا أن إدارة تلفزيون الدمام لم تكن أمينة عليها فتعرضت إلى التلف نتيجة لسوء التخزين، مما حرم المكتبة الإعلامية السعودية من أهم التسجيلات التي توثق لحقبة تاريخية مهمة من تاريخ النهضة الحضارية للمملكة.
(يتبع في الأسبوع القادم)
ــــــــــــــــــ
*كاتب وباحث ومؤلف موسيقي