الباعة المتجوّلون.. والبلدية.. وأنا
حبيب محمود
كان الجو في مثل هذه الأيام من السنة. حرّاً لا يرحم، ولا يفهم. رافقتُ العسكري “مجدوع”، في سيارة البلدية وذهبنا إلى حيث أُمِرتُ بالتنفيذ. جاء التوجيه من رئيس البلدية وقتها، المهندس زايد الجمعة، إلى مدير صحة البيئة، إلى رئيسي المباشر. والمهمّة هي منع عمالة أتراك من بيع الأثاث شرقيّ حي الناصرة.
إنه العام 1986، وسيارة البلدية؛ مازدا طراز 1985. مقصورتها باردة مثل نسائم الأناضول في أوائل مارس. كان الأتراك يعرضون بضاعتهم شمال شارع أحد. تحديداً في موقع العمارة المقابلة لشارع القدس القادم من الجنوب. وقتها كانت كل شمال شارع أحد بياضاً تاماً، إلا من بيت هنا، وآخر هناك.
إنها شمس الظهيرة بكل عمودية ليبها. وصلنا إلى الموقع. أنزلت النافذة، وناديت البائعين من مكاني المُبرَّد. جاء بعضهم، وتقدم أحدهم. وقبل أن أفاتحه بمشكلة مخالفته؛ أدخل رأسه وجزءاً من جذعه في داخل “الغمارة”.. كان يريد “البرَادهْ”، كان يابساً من الشمس محمرّاً مثل شفق آخر النهار..!
نفّذت الأوامر، حرّرتُ “إخطاراً”، ثم قفلتُ إلى مكتبي المكيّف، وأظنني حكيتُ قصة الرجل الذي كان يدخل من النافذة إلى “الغمارة” من شدة الحر. مرّ أكثر من 33 سنة، لكنّ المشهد يقفز إلى ذاكرتي كلما قرأت “الباعة الجائلين” أو “المتجولين” في تقارير البلديات..!
ثمة مشهد آخر لبائع ملابس في حي المشاري. كان من مسقط رأسي، لكنني نفذت الأوامر، وحرّرت الـ “إخطار”، ونبّهته إلى أنه قد يقع في مشكلة، إذا عرض بضاعته في العراء. وقتها؛ لم تكن هناك غرامات، ولا مصادرات. كلُّ ما في الإجراءات حجز البضاعة، ثم إعادتها إلى صاحبها بعد تعهد خطّي..!
أعرف أن النظام يستهدف حماية الناس، وحماية “المنظر العام”، وتنظيم الأعمال، وووو.. لكنني كنت أرى نفسي رجلاً يكسب رزقه من المساعدة على مضايقة آخرين في أرزاقهم. والحل القائم على منع الناس ومصادرة بضائعهم فيه الكثير من الإيلام.
لا بدّ أن هناك حلولاً بديلة.. حلولاً لا يموت فيها “الدّيب، ولا يفنى الغنم”.