جعفر الدبيس.. “مختّن” سيهات الذي ذكره رئيس شركة أرامكو السابق حلاق وحجّام وفصّاد وطبيب شعبي حافظ على مهنة أصيلة وأورثها لأبنائه
سيهات: شذى المرزوق
“4 دكاكين من 5 للوالد؛ استأجرها أشخاص من أهل القطيف.. أصدقاء الوالد كان كثير منهم من القطيف، ومن أعز أصدقاء الوالد، “أبو جعفر” الله.. كان من سيهات.. كان “المختّن”.. يأتي إلى الخبر، ويدور في المنازل و “يقصّص”، وسابقاً كان الأولاد يُختنون في سن 6 و 7 سنوات”..!
مقطع فيديو طريف؛ انتشر في اليومين الأخيرين لرئيس شركة أرامكو السابق عبدالله صالح جمعة الدوسري، في حديث عن ذكرياته.. تحدّث فيه باحترام عن أصدقاء والده، وعن شخص ما زال في ذاكرته، مشيراً إلى أنه كان ضيفاً وصديقاً مستمراً لوالده”.
أخذ الفيديو مداه من الانتشار الطريف.. لتذهب “صُبرة” في البحث عن “المختّن” القديم الذي تحدثه عنه عبدالله جمعة.. وقال إنه “من أهالي سيهات”.
فمن هو أبو جعفر “المختن” الذي قصده عبدالله جمعة..؟
في البداية يُشير حفيده محمود محمد جعفر الدبيس إلى التباس لدى “الأستاذ جمعة، فالمعنيّ في كلامه هو جدي جعفر الدبيس، وليس أبا جعفر الدبيس”. وأوضح أن اسم “جعفر” منتشر في العائلة، وربما هذا هو سبب الالتباس”.
الحلاق المختّن…!
مهنة ختان الذكور كانت منوطة بالحلاقين، وفي مدينة سيهات كانت المهنة تقوم على أبناء البلد، كما هو حال سائر بلدات القطيف وقراها، قبل أن تتراجع جرّاء تسلّم العمالة الوافدة إلى البلاد، وخسارة المجتمع جزءاً من إرثه ومهنه.
في سيهات عُرف بهذه المهنة كثيرون، وقد أدرك؛ محمد جعفر المسكين، محمود الشاخور، و عبدالفتاح الدبيس، الجيل الأخير من الحلاقين. ومنهم “المختن” الذي ذكره عبدالله جمعة وهو جعفر علي الدبيس الذي ورث المهنة عن عائلته، وأورثها لأبنائها، قبل أن يتوقفوا عنها في أواخر التسعينيات الميلادية.
مقصّ مخيف..!
جعفر علي فهد الدبيس المتوفى قبل 40 سنة مارس المهن التي تندرج تحت الموس من الحلاقة، الختان، الحجامة، الفصادة، تجاوز في مهنته مسقط رأسه سيهات والقطيف، وبمقص وموس مهنته وصل إلى الدمام والخبر وعدد من مدن المنطقة الشرقية.
وتدرب على يده أبناؤه الثلاثة، عبدالله وعلي ومحمد، وجميعهم يحملون الكنية ذاتها “أبا جعفر”، أكثرهم شهرة واستمرارية في سيهات ـ كان وما زال ـ هو محمد جعفر الدبيس الذي لازم والده حتى نهاية حياته، وعمل معه في المحل ذاته، وسط سوق حي الديرة، القلب القديم لمدينة سيهات. وما زال المحل باقياً حتى الآن بعد استئجاره وتطويره. وحتى عهد قريب؛ كان لاناس يعودون إليه لتقييم ختان الأطفال.
مهنة الدبيس
ومما ينقله لـ “صُبرة” الحفيد محمود محمد جعفر الدبيس قوله “لسنوات طويلة وعائلة الدبيس تستحوذ على الإرث الحقيقي لمفهوم الحلاقة القديمة، بما فيها الطب الشعبي، حيث كان الجد جوالاً متنقلاً بحقيبة الحلاقة المخططة بلونيها الأسود والأحمر، وداخلها عدة الختان والحجامة والفصادة، وكان يقدم الخدمة لأبناء البادية ورافقه والدي في الصحراء، وهناك ينهي مهمة ختان أطفال قد تصل أعمارهم لـ 7 أو 8 سنوات، ويعود ادراجه لمحل حلاقته الذي كان بمثابة ديوانية تجمع بعض أبناء سيهات، حيث يمارس فيها مهنته الأساسية الحلاقة قاعداً على الأرضية الاسمنتية للمحل.
وأكمل “بعد فترة شرعت الدولة قانوناً يجرم التطهير العشوائي، ووضعت تراخيص رسمية لمن يثبت أن ممارسته لمهمة الختان أو التطوير ممارسة صحيحة، فبادر جدي إلى التقدم لمركز صحي في الدمام، وتحت اشراف طبي أثبت جدارته في ممارسة مهنة الختان التي بدأها منذ سنوات، ليستمر بها بترخيص رسمي يثبت أنه مؤهل لهذه المهنة.
هذا عدا ممارسته لمهنة الفصادة والحجامة، والفصد من العلاجات الشعبية التي كانت شائعة قديماً، وهو إحداث شق أو قطع في الوريد أو العرق، وإسالة الدم منه. فكان ـ رحمه الله ـ يفصد المريض لإخراج الدم الفاسد من الجسم دفعاً للمرض، حفاظاً على الصحة. كما كان يؤدي مهمة الحجامة لمن يحتاجها من المرضى”.
وعن التكلفة وآلية الدفع يقول الحفيد محمود الدبيس “سابقاً كان نظام الدفع للحجامة أو الفصادة أو الختان أقرب ما يكون بعقد توريد مقابل الخدمة “چنزتين” من التمر أو عدد من الدجاجات أو الحليب فيما كان الدفع نقدي للحلاقة.
مساعد
وعن انتقال المهنة من جده إلى والده يقول “والدي في صغره كان يعمل في دور شبيه بالمراقب، ويلاحق الأطفال الهاربين خوفاً من مقص “المختن”. كان مساعداً لوالده في مهمته الصعبة، كما كان يقوم بجلب الضماد لجرح التطهير، وكان الضماد حينها ليس الشاش أو القطن ولا حتى لفة من القماش بل كان “شبّة”؛ وهي شرائح من الطحالب الخضراء المحاطة بالعيون يتم لفها على الجرح ليبرد ثم يزال بعد يومين من عملية التطهير.
وكما كان والدي مساعداً للجد ـ رحمه الله عليه ـ كان أيضاً يده اليمنى في محل الحلاقة، وقد عمل على تطوير المحل تدريجياً معه.
التعقيم بالنار
في ذلك الوقت كان جدي يقوم بالحلاقة بقطعة من حديد تتم صنفرتها وسنّها لمهمة الحلاقة، كما كان يقوم بتعقيمها بعد تعريضها لحرارة النار ثم تبريدها ليتمكن من استخدامها في الحلاقة لأشخاص آخرين.
مع الوقت استحدث والدي الموس الذي جعل اكثرية الزبائن تميل له ومثل ماتطورت عدة الحلاقة تطور المحل من الحلاقة على الأرض إلى الحلاقة على كرسي خشبي مصبوغ بالأخضر الفيروزي منه إلى كرسي الحلاقة المتعارف عليه
وعن الشخصيات المعروفة التي كانت خاضعة لموس حلاقة الجد يقول الدبيس “هنالك العديد من الأسماء نعتذر عن ذكرها ولكن جدي كان من باب الاحترام والتقدير يقوم هو بزيارة مشايخ وشخصيات مرموقة في المجتمع، ليقوم بالحلاقة لهم في منازلهم، كما كان يرفض أن يأتي الأهل بابنهم أو والدهم المقعد أو طريح الفراش للحلاقة بل كان هو من يبادر ليحلق له في داره بدون عناء حمله والقدوم به.
منتدى اجتماعي
لم تكن هذه المهنة هي عاملاً لمعرفة الناس بوالدي وأعمامي أو جدي، بل كان محلّ الحلاقة شبيه بمنتدى اجتماعي مصغر، فيه كان يتجمع الأهالي ويتجاذبون الحديث، ويتناقلون الأخبار، ويقرأ بعضهم الشعر والكتابات والقصص على مسمع الحضور، فيما كان جدي يعرف في الأنساب ويُرجع له للاستماع لرأيه بشأن الخطبة والزواج.
ومثل جدي دوراً مهماً في الإصلاح الإسري الاجتماعي لكثيرين، بينما بادر والدي لزيارة كبار السن والعجزة في دار الايواء والحلاقة لهم تطوعاً منه لهذه الفئة، ولم يكن يريد بذلك ذكراً ولا صيتاً، ولهذا يمتنع عن الحديث في مثل هذه الأمور رغم دوره ودور جدي وأعمامي الاجتماعي المهم في الخدمة المجتمعية الذي مثله الكثير منهم وقدموه لسيهات.
وما تزال عدة الحلاقة لدى والدي شاهداً على زمن مضى لمهنة عائلية كريمة أنتجت المعلمين، والأطباء، والمهندسين، وأجيالاً من المنجزين.
نهاية مهنة
وينقل الدبيس عن والده أن جده تدرب على “ضرب الإبرة للتخدير الموضعي للأسنان” وعمل في آخر فترات حياته في خلعها، وقد توفي عام 1983، وكان والده وقتها لا يتجاوز الـ 35 من العمر، وقد استمرّ في المحل ذاته مكتفياً بعمل الحلاقة فقط، بينما افتتح عمي علي محلاً له في موقع آخر بسوق الديرة. وبقيت هذه المهنة قائمة بيننا حتى توقف والدي نهائياً في أواخر التسعينات ليكون بذلك آخر من بقي من جيل الحلاقين القدامى.