العلاقة التفاعـليـة بين القصيدة والأغـنيــة

محمـد الســـنان

العالم العربي بشكل خاص والشرقي بشكل عام لا يملك الأدوات الفعّالة للتعاطي مع الموسيقى الصرفة، أو كما يحلو للبعض تسميتها بـ (الموسيقى الآلاتية) .  ولربما كان ذلك مردة إلى أن الموسيقى في العالم الغربي كانت ترتبط في الأساس بشكل أو بآخر بالطقوس الدينية في الكنائس والأديرة، حيث كانت تستخدم في التراتيل والأناشيد المصاحبة لتلك الطقوس، ثم تبلورت ابتداءً من عصر النهضة بعد أن تحولت من موسيقى دينية إلى موسيقى دنيوية وبذلك تحررت الموسيقى من القيود التي كانت تفرضها عليها الكنيسة، فظهرت عدة أشكال من الموسيقى التعبيرية مثل السـيمفونيات والكونشـيرتات والسـوناتات.

أما في العالم العربي والإسلامي، فالحال لم يكن كذلك إذ لم يحدث أبداً أن وظفت الموسيقى توظيفا دينياً أو استخدمت لخدمة بعض الطقوس الدينية على الإطلاق. بل ابتدأت كموسيقى مرافقة للغناء بعد أن ادخلها الفرس إلى الجزيرة العربية عبر الساحلين الشرقي والجنوبي من الجزيرة العربية لتستوطن بعد ذلك مكة المكرمة والمدينة المنورة عندما تم جلب العمال الفرس من اليمن لبناء الكعبة وكذلك القيان والموالي الذين احترف بعضهم الغناء والعزف على الآلات الموسيقية السائدة في ذلك العهد مثل البرابط (العيـدان)، والدفوف وكان ذلك قبل دخول الإسلام. إذ لم يعرف العرب في أي مرحلة من مراحل التاريخ الموسيقى الصرفة.

كانت الكلمة هي أحد أسلحة العرب التي كانوا يتفاخرون بها فيما بينهم. وكان أمضاها وأشدها تأثيراً هو الشعر، الذي كان يعـرف ب (ديوان العرب). وكان الشعر يوظف توظيفاً رائعاً في الغزل والهجاء والمديح، والتغني بالشعر كان يساعد على انتشاره بين القبائل ويتم ترديده بين العامة، وبالتالي كان يحقق الشهرة لقائله. وهكذا بدأ الغناء في الجزيرة العربية باختيار أبيات من الشعر الغزلي التي تصلح للغناء والتي يوجد بها جرس موسيقي ومن ثم صياغتها في ألحان يتم غنائها من قبل القيان أو الموالي الذين برزوا في تلك الحقبة التاريخية. والقصيدة لم تكتب في الأصل لتغنى، بل إن الملحنين قد يجدون في قصيدة ما ما يلامس إحساسهم الفني فيقوموا بترجمتها إلى أغنية. وأحياناً يقوم الشـعـراء باسـتئجار أحـد المغنين أو المغنيـات للتغـنى بأبياته.

وفي عصرنا الحاضر، وبعـد أن أصبحت الأغـنيـة جزء من حياة المجتمعات، كما أنها أضحت أداة للتكسب والثراء، كان لا بد من أن يكون هناك من يكتب الشـعر الغنائي.  فظهرت على المسرح مجموعة من الشعراء عرفت بشعراء الأغنية الذين بدأوا في احتراف كتابة الشعر العامي أو قصيدة التفعيلة من أجل الغناء.

لا شك أن القصائد قد نالت من الشهرة والانتشار أكثر من تلك التي بقيت حبيسة الدواوين. وكم من قصيدة كانت في حكم الميتة، ولكن جاءت الأغنيه لتعيدها إلى الحياة!!!..  لكن المشكلة أن معظم الملحنين في عصرنا الحاضر لا توجد لديهم ذائقة شعرية تمكنهم من التعامل مع القصيدة بالحرفية التي من شأنها أن تضيف إلى القصيدة بعداً آخر، كما كان يفعل أساطين الملحنين في القرن العشرين، مثل محمد عبد الوهاب ورياض السنباطي ومحمد القصبجي وفريد الأطرش ومحمد الموجي. فالتأمل في أغنية (الصبا والجمال) مثلا للشاعـر (بشارة الخوري) والتي لحنها وغناها (محمـد عـبـد الوهاب) سيجد أن هناك تجسيد لحني للقصيدة منحها عمقا في معانيها وبعداً في احساسها وصدقا في ترجمة كل كلمة من كلماتها. وكذلك الحال بالنسبه لقصيدتي (رسالة من تحت الماء) و (قارئة الفنجان)، حيث تعامل معهما محمد الموجي بحرفية عالية، غاص فيهما إلى العمق من خلال لحنين رائعين. ولا ننسى كيف تعامل رياض السنباطي مع رائعة أم كلثوم (الأطلال) وكيف قام بتصوير معاني كلماتها في بانوراما لحنية في غاية الروعة. وهذا يعكس تشبع هؤلاء الملحنون بالروح الشعرية العالية مما ساهم إلى حد كبير في صدق التعبير اللحني الذي تعاملوا به مع تلك القصائد. وبذلك حققوا بهذه القصائد الانتشار ولأصحابها الشهرة. وفي الاتجاه المقابل، في بعض الحالات قد يجد الملحن أو المطرب أن القصيدة التي يتم اختيارها لتكون أغنيه تحتوي على بعض المفردات التي لا تروق لها، ويجب استبدالها أو استبعادها. وسوف نجد أنه في كثير من الحالات قد تم استبدال تلك الكلمات بكلمات أخرى أكثر قبولا دون أن تنقص أو تغير المعنى الذي قصده الشاعر، وهذا التعديل لا يجب أن يكون إلا بموافقة الشاعر وحضوره واستماعه إلى وجهة نظر كلا من الملحن والمغني، وبالتالي يقوم هو بإجراء التعديل المطلوب. ففي قصيدة (الصبا والجمال) نجد أن البيت الأخير كان كما يلي:

رفعوا منك للجمال إلهاً         وانحنوا سجداً على قدميك

لكن محمد عبد الوهاب تحفظ على لفظي (إلها) و (سجدا) فقام الشاعـر باستبدال  تلك المفردتين ليصبح البيت هكـذا:

رفعوا منك للجمال مثالاً        وانحنوا خشعاً على قدميك

وهذا التعديل يعتبر طفيفاً جداً اذا ما قورن بالتعديل الذي تم إجراؤه على قصيدتي (رسالة من تحت الماء) و (قارئة الفنجان) ، فبالإضافة إلى تعديل واستبدال بعض الكلمات، فقد تم استبعاد الكثير من الأبيات التي لم تكن ملائمة للغناء دون أن يؤثر ذلك أو ينقص من مضمـون القصيدتين.

أما بالنسبة لقصيدة (الأطلال)، ففي الحقيقـة هذه القصيدة هجينة أي أنها مركبة من قصيدتين لشاعـر واحد. ونظراً إلى أن الشاعـر (إبراهيم ناجي) لم يكن على قيد الحياة، فقد قررت أم كلثوم التي اختارت الأغنية من الديوان أن تعرض القصيدة على الشاعـر (أحمد رامي) ليقوم باختيار الأبيات المناسبة لتلك القصيدة، لكن أحمد رامي قام بعملية مونتاج تعتبر الوحيدة من نوعها في عالم النص الشعري المغنى… فقد اختار 25 بيتاً من قصيدة الأطلال وطعمها بسبعة أبيات من قصيدة (الوداع) لنفس الشاعـر. ومن ثم قام بإعادة ترتيب الأبيات بشكل غريب، بحيث جعل بعضها قبل الآخر في عملية تقديم وتأخير.

ففي الأمثلة السابقة نجد أن التفاعل بين الثلاثي (الشاعر+ الملحن+ المغني) مهم جداً لإجراء أي تعديل في القصيدة من استبدال مفردات أو حذف بعض الأبيات. وفي نظري أن أي تعديل يجريه المطرب أو الملحن للقصيدة دون الرجوع للمؤلف يعتبر اعتداء وتشويه للنص حتى لو كان التعديل أجمل من الأصل .

 

زر الذهاب إلى الأعلى

صحيفة صُبرة : https://www.sobranews.com

×