عدسات سبينوزا.. مدن الحلم لا بد أن تفكّر
هادي رسول
“مدينة العقل لا تحلم” هكذا قال عبدالرزاق الجبران في وجوديته السمراء.
لكن ماذا لو عكسنا مقولة الجبران؟
ماذا عن مدائن الحُلم؟
ربما سأقول: مُدُن الحُلم لابد أن تفكّر! و الشاعر لا بد أن يتفلسف.
يشير إلى فلسفة الشاعر، الناقد العراقي فوزي كريم في كتابه القلب المفكّر حين يقول: “الشاعر يتفلسف بواسطة أداة لا يُحسنها محترف الفلسفة، حيث تكون الفكرة عاطفة موسيقية على هيئة صورة”
لا يمكن عزل الفكر عن الشاعر، الفكر أداته التي يرى من خلالها الأشياء و يمعن في تأملاته فيها بواسطة رؤياه و عدسته الشاعرة التي ترى ما لا يرى.
عدسات سبينوزا التي ارتداها تباعًا السيد محمد الخباز و أعارها قارئه ليرى من خلالها معه.. كانت سيرة وعي جديدة و ملحمة عقل متمردة…
قلتُ سيرة وعي جديدة؟؟
يالها من سيرة وعي؟؟
أليست التجربة الأولى لمحمد الخباز كانت سيرة وعي؟!!
أمّا لماذا في ملحمة العقل هذه حضر سبينوزا؟
يبدو أنّ الشاعر وجد تقاطعاته مع سيرة سبينوزا الفكرية، و من يعرف محمد الخباز يلامس جوهر التمرد في روحه.
يقول في عدسة الروح:
“من يضعها على عينيه
ير في كل شيء روحًا
روحٌ هي قدرتك التي حين تزول لا تكون فيك روح. روحٌ هو رأيك حين يكون لك رأي آخر. روحٌ هي فكرتك حين تكون أخرى. روحٌ هي معرفتك حين تفيض على الآخرين. روحٌ هي مشيئتك التي تسير بك”
يجادل الخباز واقعه بالشعر، و كأنّ الشعر وسيلته للمماحكات الكلامية، فعدسة العبرانيين تفضح احتكار الإيمان..
يقول في نص عدسة العبرانيين:
“من يضعها على عينه
ير نفسه فقط”
إلى أن يقول:
“وحده الطفل
يظنّ أنّ نهر الرب ينقص حين يشرب الآخرون معه، و الجنة تضيق حين يدخل معه الآخرون.”
مشحونة عدسات سبينوزا أقصد عدسات الخباز بالإشارات الفكرية العميقة، و شاغلها الوحيد هو الإنسان،
فعدسة الخوف تكشف عن هزيمة الوعي، و عدسة التقوى تفضح أوهام المؤمنين الذين عدستهم توهمهم أن “الدين سر ممتنع إلا عليهم” .
و ثمة عدسات تضعك أم متباينات أو نقائض صادمة أو مفاجئة في دهشتها الفريدة، فعدسة القدرة “من يضعها على عينه ينسب كل أمر عظيم إلى الرب، ما عدا الشعر ،الشعر الساحر وحده من عمل الشيطان”، يالها من عدسة!!
أما عدسة الرؤيا فهي عدسة تمنح رؤيا البشر منزلة أرفع من رؤيا الأنبياء و القديسين.
لا ينفك الخبّاز عن هواجسه و قلقه، مشغول بحقله الإنساني.
فهو “يقلّب عقله على الجمر، و الحقيقة بيته و إصلاحها واجبه.. و أفكاره تكبر معه و لكن كوحش، و يمرّ على بحر السؤال ليرتوي، و الأفكار حاملة لجنازة صاحبها”
إنها سيرة وعي جديدة بامتياز و ملحمة عقل في روح شعرية تفكّر بعمق.
سأختم بالإشارة مرة أخرى إلى فوزي كريم و كأنه يتحدّث إلى الخبّاز حين يقول:
“الشاعر المفكر شاعر أخلاقي، لا كراهية لديه، لأن شاغله هو التباس الإنسان على الإنسان”.
٢٤ / ١٢ / ٢٠٢١م