نمذجة الشعر والناقد “المزكوم”…!
أحمد الماجد
بلغ من بعض النقاد الأكاديميين من هوسهم بالسهل الممتنع ونمذجتهم لهذه المساحة الضيقة المتاحة حد التسطيح أن يشبهوا مقلمي الأشجار الذين لا يسمحون بأي غصن يناقض رتابة الشكل الدائري والمربع والمستطيل. مما يبقي تمرد الأشجار النصية على الشكل المحدد.. هوس الطريقة والبوصلة والنمذجة والتكرار الهش الممل والبحث عن الروح الدعوتية والأثر والمباشرة إلا من شعرنة مفردات محدودة فكأن النص مجرد إعادة شعرنة للمألوف والمروي والمأثور حتى بات البحث عن المألوف يساير الاستيحاش النقدي من اللامألوف.. مع اتهام مسبق جاهز بعبثية الغموض ولا وعي المبتكر المخالف للسطح والمناوئ لشعرنة المفردة المراوحة للفكرة نفسها..
تلك النصوص التي تحوم حول الحمى وتهرول بالذهن لم تعد مرغوبة كنصوص الوجبات السريعة.. السهل المسطح الضيق الذي لا يتطلب تأشيرة التفكير بل يتيح الاقتحام من الوهلة الأولى.. النص الشفهي المسموع الذي دخل ذهن المتلقي قبل أن يُلقى نظرا لتكرر معانيه ووجودها المسبق في مخزن المتلقي وتوقعه وتأسيسها على خضوع فج للتنبؤ واستسهال للتفكير. الغريب أن يصبح المألوف خارطة طريق الناقد لإجازة النص الشعري واصطفائه حذرا شديدا من تمرد الشاعر وخروجه عن الصيغ السائدة المتبعة وإثارته للحيرة وتحريكه للأسئلة.
يخشى الناقد المزكوم بالرسالية والهدفية أن يطيح الشاعر بالرسالية المألوفة وأن يميعها في الغموض حرصاً على ألا يكون الشعر منحصراً على النخبة في حفاظ متكلف على نوع النصوص الصالحة للمنصة والحفل الختامي لا النصوص المجددة.
الأمر الذي يعري الإبداع أمام النسق ويوحي للشاعر بفكرة استنساخ وإعادة تدوير النصوص التي حالفها النقد وصولا لقالب واحد يمثل نفَس النقاد المكشوف الغير متصالح مع مزاجية المبدع وتقلباته بل الراسخ الثابت المؤرشف على النسق الحميم الذي يوجَدُ له تذكار مألوف قديم على جدران الذاكرة. من هنا لن يكون مستغربا أن تجد نصوصا تغازل ملامح الوجه النقدي الذي أصبح مفضوح النبوءة ولا يحتاج لتكهن بقدر ما يحتاج لاستقراء منطقي ومراوحة المتاح المتوَّج.
لم يعد القارئ العادي الكسول التقليدي الوحيد الذي يتأبط قنوطا وتبرما من المعنى الموارب والرمز المتلاعب بالذهن بل أصبحنا نجد أنفاسا نقدية تمارس تقليم أغصان الفوضى المتمردة وتبحث عن النص الذي يشرح نفسه داخل النص أو النص الذي يحتوي شرح نفسه ويغيب هو. أن تكون الدلالة حاضرة في غياب الرمز، أن يكون التأويل متاحا أكثر من المجاز الجديد. فالإلماح أصبح ضربا من التعقيد والإبهام في زمن الوجبات التأويلية السريعة والتتبيلات الخيالية الجاهزة. فمن رهانات النص الجيد افتراضا أن يكون سبورة شارحة للدرس في ظل غياب الدرس نفسه الذي يحيل القارئ لاكتشافات لم يعتدها. قصيدة يسمح فيها بإحالات يتم قياسها بحذر ذائقة مستهلكة بين تضمين ومروي ومأثور ورمزية مكشوفة تناوش صورة الممدوح وآثاره غصبا. تلك المنطقة التي يزداد فيها التحدي ويتضاعف الرهان على نجاح التوظيف أو فشله ووقوعه في التكلف والافتعال والتعليب في تصوير يفتضح فيه التعمد والإقحام لعلائق الشخصية الممدوحة بغية الإحاطة بها وتغطية مساحاتها وتسليط الضوء المصطنع عليها. هكذا يبحث الناقد المراوح مكان المكان عن خطبة الجمعة أو كلمة الحفل داخل النص الشعري الديني المتناول للشخوص الدينية بحيث يصبح شُرطيا يحافظ على الرسالية والهدفية في النص من طغيان الحالة الشعرية الحالمة وثورة الإلماح الفنية.
أحمد الماجد