«بعد ما شاب ودوه الكُتاّب».. «حائرون» في أسواق الذهب: من أين نأتي بشهادة الثانوية؟! شروط وزارة الموارد البشرية الجديدة تدخل حيز التنفيذ بعد 104 أيام.. والتجار والباعة في «مأزق»
الدمام: شذى المرزوق
نظرة خاطفة من عبدالهادي محمد الطويل، إلى اصبع سيدة تبعد عنه ما يقارب المتر، كانت كافية ليحدد وزن خاتم الذهب في اصبعها، لا بل وزن الإضافات عليه، وصولاً إلى تقدير قيمته المصنعية والسوقية.
أكثر من ذلك؛ لم تتجاوز النظرة أجزاء من الثانية كي يحدد الطويل الورشة التي خرج منها خاتم الذهب في اصبع تلك السيدة التي كانت تتبضع من محله في سوق الحُب أو الحَب الواقع في الوسط التجاري لمدينة الدمام.
أمضى الطويل قرابة 40 عاماً في السوق. يعرف كل صغيرة وكبيرة فيه. كما يعرف جميع باعته والعاملين في محاله، يعتبرهم جميعاً «أسرته الكبيرة». هو أيضاً عضو مجلس الذهب في غرفة الشرقية، ومجلس الغرف السعودية سابقاً.
من خلال الممارسة والخبرة والمهارة والتواصل مع الكثير من البلدان، لمتابعة أسواق الذهب العالمية والأسهم؛ اتقن عبدالهادي لغات عدة. هو أيضاً يعرف أدق تفاصيل التجارة العالمية في الذهب والمجوهرات. يستطيع أن يتنبأ سلفاً بمسار الأسعار، ومتى سترتفع أونصة الذهب، ومتى ستنخفض.
بعد كل ما سلف؛ تخيلوا أن عبدالهادي الطويل لن يتمكن من البيع في محله بسوق الحب في الدمام بعد 104 أيام، وتحديداً في الخامس من شهر يناير المقبل، حين يدخل قرار وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، حيز التطبيق.
شروط وضوابط جديدة
في شهر أغسطس الماضي؛ أصدرت الوزارة قراراً وزارياً رقم 230530، يُلزم العاملين في نشاط الذهب والفضة شروطاً وضوابط عدة. تشمل:
أن يكون العامل سعودي الجنسية.
أن يكون العامل من ذوي الكفاءة المهنية.
أن تستمر مدة صلاحية الرخصة سنة واحدة فقط.
وللحصول على الرخصة؛ يجب إرفاق المتطلبات التالية في الطلب:
مؤهل علمي لا يقل عن الثانوية العامة، أو ما يعادلها.
صورة من الخبرات العملية (مُسجلة في المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية).
صورة من الدورات، وصورة من الهوية، إضافة إلى صورة شخصية.
على أن يدخل قرار الوزارة حيز التنفيذ في الأول من شهر جمادى الثاني من عام 1443هـ، الموافق الخامس من شهر يناير من عام 2022.
توتر.. إرباك ما بعد القرار
منذ صدر القرار الوزاري؛ وأسواق الذهب في القطيف والدمام والأحساء تشهد حالاً من التوتر والإرباك، فالشروط أو بعضها يصعب تنفيذه في مهنة ازدهرت منذ عقود، بفضل نظام عائلي مُتوارث.
مع الدمام؛ تعد محافظتي القطيف والاحساء «رائدتان» في هذه التجارة، حيث امتهن الكثير من العوائل صوغ الذهب والمجوهرات وبيعها. هذه المهنة توارتثها أجيال، وازدهرت بفضل خبرة الأجداد، وباتت مملكة خاصة يحكمها نظام عائلي، حيث يتربى الأبناء على أبجديات العمل منذ نعومة أظافرهم، ليكملوا مسيرة من سبقهم. لم تكن تعنيهم البتة الشهادات الدراسية.
يُقدر تجار في السوق، أن 80% من الباعة والعاملين السعوديين، الذين يشكلون الغالبية العظمى، وربما المُطلقة فيه، لا يملكون سوى شهادة المتوسطة، وربما ما دونها.
يتفق صاغة على أهمية شرط التسجيل في المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، لحفظ حقوق الموظف والعامل، وحصوله على الامتيازات التي يمنحها نظام العمل السعودي، من تأمينات اجتماعية، وتأمين طبي له ولعائلته، إضافة إلى ضمان رصيده من الإجازات، وفق الضوابط التي توفر له حياة مُستقرة.
في ما يخشى آخرون من تبعات القرار، خصوصاً في شقه المتعلق بالمؤهل الدراسي، معربين عن مخاوف في هذا الصدد، آملين في مراجعة القرار، وإعادة النظر فيه.
«صبرة»، زارت سوق الحُب في الدمام، ورصدت موقف باعة وصاغة، من القرار الوزاري.
آثار سلبية في جانب.. وإيجابية في آخر
بالعودة إلى عبدالهادي الطويل؛ الذي يقول «إن لهذا القرار تأثيراً سلبياً على صاغة المنطقة الشرقية تحديداً، كونها الرائدة في صياغة الذهب. في ما أغلب صاغة المناطق الأخرى يتعاملون مع المهنة من منطلق التجارة فقط. لكننا نرى أنها مهنة اكتسبناها منذ الصغر بالممارسة، وليس الشهادة».
الطويل، الذي يحمل شهادة المتوسطة، يرى أن اشتراط حصول العاملين على شهادة الثانوية العامة، «قد ينسف سنوات من العمل المتواصل في هذا المجال، الذي امتهنته أياد وطنية، استطاعت أن تصل به إلى العالمية».
عن شرط التسجيل في التأمينات الاجتماعية؛ يرى أنه «وإن تأخر صاغة في تطبيقه؛ إلا أنه قرار مُنصف، يضمن حقوق العامل، ويوفر له أماناً وظيفياً»، وعلى حد تعبيره فهو «ضمان لبقاء أبنائنا، واستمرار عملهم في هذا النشاط».
التدريب على رأس العمل
غير بعيد عن محل الطويل، هناك محل تاجر الذهب والمجوهرات زكي الموسى، الذي تجاوز الـ50 من عمره، والذي مارس هذه المهنة قبل أن يكمل العاشرة. بدأها بتقديم ما يختاره العميل من قطع ذهبية، تطور إلى إصدار فواتير البيع، حتى انتقل إلى مرحلة وزن القطعة، ومعرفة تفاصيل البيع بتقدير القيمة، باعتماد إضافة سعر التصنيع، وسعر السوق ورسوم الضريبة، وما شابه، وصولاً إلى مرحلة اتقان التصميم، وتركيب الأحجار المختلفة.
يقول «كل ذلك نقلته من أبي إلى أولادي. نحن هنا عائلة واحدة، نعمل في فروع مختلفة. اعتمادنا الأول على تراكم الخبرات التي حصدناها طوال عقود، لا على مؤهلات دراسية، وهذا ليس استهانة بالشهادة، بل هو تشخيص لواقع السوق».
يُشير الموسى، إلى أن اشتراط الشهادة الثانوية أو ما يعادلها «أمر يصعب تطبيقه على الصاغة الذين يعتاشون من هذه المهنة منذ زهاء قرن، إن لم يكن أكثر، ولديهم الكفاءة المهنية في هذا النشاط».
مع أنه يتفق على أهمية شرط التدريب والتأهيل؛ إلا أنه يرى أن هذا الشرط «قد يتسبب في إيقاف العمل لفترة، تتعطل فيه مصالح المحال، ومنافذ البيع». ولا يرى أفضل من التدريب على رأس العمل، على يد ذوي الخبرة.
ويلفت إلى أن هناك «الكثير من الصاغة في المنطقة الشرقية، ممن يتقنون فنون المصوغات الذهبية، وتصميمها باحترافية، وصقلها وترصيعها بالمجوهرات، وهذا إرث يتوارثه الأبناء، حتى يغدو مهارة يتقنونها ويطورنها، ويصلون بها إلى الريادة في العمل».
عن التسجيل في التأمينات الاجتماعية والاشتراطات المهنية؛ يقول «إن تأسيس قاعدة ثابتة ضمن نظام العمل السعودي، بما يضمن حقوق العامل أمر نتفق معه كلياً، وإن كان لن يحتسب سنوات عملنا السابقة، إلا أن هذا الشرط يستلزم منا التعاون مع الجهات المسؤولة، لاعتماده، على غرار ما حصل مع قرار ضريبة القيمة المُضافة، الذي تم عرضه على التجار قبل إقراره وتطبيقه».
حرفة وليست وظيفة
بدوره، رأى التاجر والصائغ عبدالعزيز الاربش، أن اشتراط شهادة الثانوية في حد أدنى، لاستخراج رخصة مزاولة المهنة، «قرار يحتاج إلى إعادة نظر، فمهنتنا متوارثة أب عن جد، وهي حرفة وليست وظيفة، أي أنها تحتاج إلى الخبرة، وليس الشهادة. ومعظم الصاغة لم يكملوا تعليمهم في المدارس، لحاجة أهلهم إلى أن يكونوا معهم في السوق، منذ سن مبكرة».
وتساءل «هل يعقل أن يغلق تجار الذهب والمجوهرات محالهم، لعدم امتلاكهم شهادة دراسية؟ أين سيعملون هم وأبنائهم؟».
استنسابية في التطبيق
يستعيد تاجر الذهب، الخبير في سوق الذهب هاني المهنا، عقوداً من العمل في السوق، ليصل إلى نتيجة مفادها أن «الأجداد والآباء تمكنوا من ترسيخ قاعدة قوية لهم في هذا النشاط، ونجحوا في وضع بصمة وطنية خاصة، وبكفاءة عالية، حتى أصبحوا رواداً. وبفضل هذه المهنة تخرج من الجيل الجديد علماء ومتخصصون في مجالات مختلفة، ولم يمنعهم ذلك من مزاولة المهنة التي اكتسبوها مع الوقت».
أما على مستوى الجيل الماضي والآباء؛ فيضيف «من الصعب، لا بل من الضرر؛ اشتراط الشهادة عليهم، كونهم عملوا منذ الصغر في هذا المجال. وبعضهم لا يملك حتى شهادة المرحلة الابتدائية، فكيف بالثانوية أو ما يعادلها؟».
الأولوية لأصحاب الخبرة
بدوره؛ يلفت تاجر الذهب عبدالعزيز الناصر، إلى الضرر الذي قد يتسبب به القرار الوزاري، على الصعيد المهني لملاك محال الذهب، منوهاً بأن العاملين في هذا النشاط «لا يملك غالبيتهم إلا الخبرة المُكتسبة، التي كانت كفيلة بالصعود بهم إلى مستوى متمكن من الاحترافية، وفتح أبواب الرزق بما يضمن لهم وعوائلهم الاستقرار المادي، والذي بفضله استمرت هذه المهنة على مدار عقود».
الناصر، الذي يحمل شهادة الثانوية العامة، وعمل لزهاء عقدين مصوراً صحافياً بعد نيل الشهادة، وقرر لاحقاً أن يودع العدسات، ليعود إلى مهنة آبائه وأجداها، متاجراً في الذهب والمجوهرات. يطالب اليوم بإيجاد حلولاً بديلة «تُسهم في مزاولة هذا النشاط، باعتماد المهارات والخبرات، وإعطاء أصحاب الخبرة الأولوية في ممارسة المهنة التي اتقنوها».
يشرح الناصر، أن السنوات الأخيرة «اقتضت الالتزام بتسجيل العاملين في التأمينات الاجتماعية، ومع أنها لا تتضمن تسجيل سنوات طوال من الخبرة السابقة؛ إلا أن لها امتيازات أخرى للعامل وحقه، ما يجعل الأمر مُتقبلاً لدى الصاغة بشكل أفضل من شرط الشهادة الثانوية، الذي أثار مخاوفهم من التوقف عن مزاولة العمل».
«لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم»
التاجر محمد الناصر، يدعو إلى مراجعة القرار، وإعادة النظر فيه، واعتماد مبدأ «لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم»، مقترحاً «أن يكون اشتراط الشهادة لمن هم أقل من 35 عاماً، أما من هم بعمر أكبر؛ فيطلب منهم تعريفاً من شيخ الصاغة واثنين من التجار ممن لديهم الخبرة في تجارة الذهب، بأنه متمكن من مزاولة المهنة، مع اكتسابه خبرة بكفاءة، حتى يستمر في عمله من دون إثارة المخاوف التي تتصاعد تدريجاً في قلوب الصاغة، الذين يواجهون قراراً جديداً قد يتسبب في إخراجهم من السوق».
يضيف الناصر، أن «المهنة موروث قديم، ولم يستكمل غالبية العاملين فيها دراستهم، اتساقاً مع وجهات نظر عائلية قديمة، حتمت وجود الأبناء إلى جانب الآباء في السوق».
عوائل أحسائية تهيمن على سوق الذهب
في كل مدينة بالمنطقة الشرقية يوجد سوق ذهب ومجوهرات. وفي البلدات والقرى؛ قد توجد محال في بعضها، يُقدر عددها الإجمالي بـ110 محال، أقل أو أكثر قليلاً من هذا الرقم.
لكن سوق الحُب وسط مدينة الدمام يُعد الأكبر والأكثر شهرة في المنطقة، وقد لا ينافسه في هذا المجال سوى سوقي مدينتي الهفوف والمبرز في محافظة الأحساء.
الغالبية المُطلقة من محال الذهب في السوق، مملوك من عوائل تعود في جذورها إلى محافظة الأحساء، افتتحت محالها مع تأسيس مدينة الدمام في أربعينيات القرن الميلادي الماضي، بالتزامن مع ازدهار نشاط شركة «أرامكو السعودية».
هذه العوائل افتتحت في العقود الماضية، محالاً خارج السوق، سواءً في أسواق مدن الشرقية الأخرى، خصوصاً: الخبر، الظهران، القطيف وصفوى، وصولاً إلى الجبيل شمالاً، وبقيق جنوباً، وربما حفر الباطن، الخفجي، النعيرية وقرية العليا، إضافة إلى المجمعات التجارية.
بعض هذه العوائل لم يكتف بالمنطقة الشرقية، بل ممدد نشاطه إلى مناطق أخرى، خصوصاً الرياض. آخرون تجاوزا ذلك إلى أسواق دول خليجية، مثل: البحرين، قطر، الكويت والإمارات.
وإلى جانب محال الذهب والمجوهرات؛ هناك ورش تصنيعها وسبكها، والتي يفوق عددها الـ10. وأيضاً تعود ملكية غالبيتها إلى الأسر الأحسائية، التي تمتهن البيع والشراء. إلا أن هذه الورش – بخلاف المحال – أقل توطيناً، إذ يكثر فيها الوافدون، خصوصاً الآسيويين. ويهمس باعة ذهب بوجود ورش «سرية» في بيوت وشقق سكنية، غالبيتها شعبية، تُدار من عمال أجانب.
مواسم تتأرجح بين محرم ورمضان
للسوق مواسم وأشهر ذروة في البيع والشراء، أبرزها الثلثين الثاني والثالث من شهر رمضان المبارك، وصولاً إلى الأيام التي تسبق عيد الفطر السعيد، وبنسبة أقل قبيل عيد الأضحى المبارك.
وفيما يشهد السوق ضعفاً نسبياً في تعاملاته خلال شهري محرم وصفر، يعاود نشاطه المحموم قبيل حلول شهر ربيع الأول، الذي يُعد المُفضل لإقامة حفلات الزفاف لدى الكثير من الأسر في المنطقة الشرقية. وتبقى المبيعات متأرجحة؛ صعوداً وهبوطاً في السوق، حتى يقترب شهر شعبان، حيث يُعاود نشاطه، لأن هذا الشهر أيضاً تكثر فيه حفلات الزواج. ويخفت وهج السوق قليلاً في العشر الأوائل من رمضان.